الشيخ جلول الجُزيري التونسي.. الحلقة الأولى
الشيخ جلول الجُزيري التونسي.. الحلقة الأولى
حدثني شيخي العلامة حمدن بن التاه قال: كنت طالبا مطلع الستينات في تونس العاصمة فسألت مرة بعض الطلاب هل صادفوا وليا لله في هذه الربوع، فأجابني طالب سنغالي بالإيجاب و دلَّني على موقعه الجغرافي.ذهبت إلى حيث وصف الدليل صحبة أخي ببَّها الملقب ببَّ و لمَّا دخلنا سوق الشواشين بالعاصمة فتَّشنا بنظرنا عن المتجر رقم سبعة (7) فما اهتدينا إليه و ما زلنا في حيرة حتَّى إذا أقبل علينا رجل فقال:" دلَّكما عليَّ السنغاليُّ ؟!"
فعلمنا باليقين أننا ما ضللنا و لكننا مهتدون!و من هنا بدأت علاقة الرجلين بذلك الرجل الصالح ذي العلوم الظاهرة و الطباع الآسرة و الأسرار الباهرة و هي أسرار نوَّه بها الأستاذ حمدن مؤخرا في معرض حديثه عن سر الحرف في برنامجه الرمضاني الممتع في قناة الساحل.إنه الشريف الحسيني التونسي الشيخ جلول الجزيري!(في وسط الصورة أي الثالث من جهتيْ اليمين و اليسار).
تخرج الطالبان و لكن علاقتهما بالرجل استمرت إلى غاية وفاته في بداية الثمانينات و ربما زارهم في انواكشوط بعض ابنائه.قال لي الأستاذ ببَّ في تونس حيث لقيته شتاء 1982 م:" أنا المدير المسن العائد إلى مقاعد الدراسة في الخارج فماذا عسايَ أتعلم من جديد؟ إنما هي سنة دراسية في مجال محو الأمية بمنحة من اليونسكو اغتنمتها فرصة لملازمة هذا الشيخ! فهل منكم من يعلم أن نجل ببَّ الأكبر الوزير السابق السيد سيدي بن اتَّاه كنيتُه "جلّول"! بذلك تُدركون جيِّدا مدى العلاقة الروحية القوية مع هذا الرجل! و أعود فأقول إنني أنا كذلك كنت أغتنم فرصة مهمة رسمية إلى الخارج لأغيِّر الطريق فأمر بتونس للقاء ذلك الرجل الغريب.وصلتُ تونس عصر يوم الجمعة فآواني الطالب المدير أو المريد على الأصح لدى سكن لطالب آخر صِرف هذه المرة هو الصحفي المعروف اعلِ بن عبد الله.
نغَّص عليَّ جوَّ اللِّقاء و التحيب و المبيت ليلتنا تلك نبأُ غياب الشيخ إلى نيجيريا لأجل غير معلوم و مُقامي في تونس محدود بفجر الإثنين المقبل نظرا لعامليْ الحجز المغلق و العجز المطلق و هو ما عبَّر عنه الشيخ فيما بعد بعبارة لا تخلو من طرافة.و لكن فرحتي كانت كبيرة عندما دخلنا السوق صحوةَ اليوم الموالي أي السبت فإذا برفيقي يبشرني بعودة الشيخ و الدليل متجره المفتوح!جلسنا على مقاعد متواضعة معدة للزوار أمام المدخل سبقَنا إليها زائر قال عنه الشيخ فيما بعد إنه شريف حسني ذو صلاح استدل عليه ببعض القصص.عاد الشيخ إذن فقدمني إليه رفيق فقال:"الموريتانييو يُحبونني كثيرا و لكن هذا صغير فلا بدَّ أن تأتيني به في البيت غدا لأزوِّده بالحكمة " ثم ناولني برتقالة و قال :" كل هذه على نيتك " و ألقاها إليَّ من مسافة فتلقفتها.لم نظفر من الشيخ خلال هذا اللقاء بالمجلس المتواصل نظرا لتنقلاته الدائبة إلى المتاجر المجاورة و لكنه كان في كل مرة لا يتكلم فيها في هاتفه التقليدي جدا يوجه إلينا بعض الكلام.لفت انتباهي أن لهذا الهاتف مِقبضا لا يزال الشيخ يحركه بصورة دائرية أثناء الكلام .لم تكن سَعَة المتجر تبلغ عشر مترات مربعة يحتل منها مقعده التقليدي الملكي الفاخر حيِّزا كبيرا و تمتد صورته لتُغطي الجدار الخلفي بأكمله بحيث تواجه الزبناء عند المدخل.و في اليمين تمتد الكتب علوًّا إلى مدِّ البصر و أذكر من عناويها "إحياء علوم الدين".قال لي الأستاذ الخليل النحوي و هو من رواده:"و ما رأيت ترتييب هذه الكتب قطُّ مختلاًّ بما يُنبيء عن مطالعتها !" .أما الزبناء فما هم بكثير كما هو حال البضاعة إذ تنحصر في عدد محدود من الشاشيات أي القلنسوات ذات اللون الأحمر.و إن ألمَّ زبون ينقطع إليه الشيخ فيوليه و يولي بضاعته من الإهتمام بقدر ما تتوهم به أن التجارة قد استغرقته.ثم ينصرف الزبون دون أن يشتري في أغلب الأحيان فإذا بالشيخ مستغرق في حاله معنا. قال الأستاذ التونسي محمد صلاح الدين المستاوي في مقال له بعنوان "الشيخ جلول الجزيري إشعاع روحي تجاوز حدود تونس" :إن الشيخ جلول الجزيري ظل يمارس الحرفة التي ورثها عن آبائه وأجداده لا يضيره أن لا يعرف عامة الناس علو منزلته ورفعة شانه . أذكر أن الشيخ سألنا يومذاك عن سفير موريتانيا الأسبق في تونس السيد معروف بن الشيخ عبد الله و كان يحبه و قال:"ذهبت إليه لأخبره بالإنقلاب على المختار بن داداه فما وجدته!" ثم قال:"أما النميري فقد أخبرته و اشترطتُ عليه تأمين أصحاب المحاولة ففعل!" قال الأستاذ المستاوي: ذات مرة أبى رئيس دولة السودان (جعفر النميري) الذي كان في زيارة رسمية إلى البلاد التونسية إلا أن يقتطع من برنامجه جزءا ليؤدي زيارة للشيخ جلول الجزيري في مقرّ عمله بسوق الشواشين حيث جلس إليه في خلوة المريد بالشيخ وأعضاء الوفد المرافق له والحراس والجميع في الانتظار إلى أن خرج جعفر النميري من عند الشيخ جلول الجزيري-رحمه الله- ووجهه إلى محل الشيخ جلول الجزيري لم يشأ أن يستدبره تأدبا معه.
في نهاية اللقاء و بتنسيق محكم مع دليلي الرفيق ناولت الشيخ هدية متواضعة و لكنها تمثل نصف ثروتي آنذاك و هي عبارة عن مبلغ خمسمائة درهم أظنه يعادل خمسة آلاف أوقية فقط في ذلك العهد.قال الشيخ بأريحيته الروحانية المعهودة:" إن الهدايا على قدر مُهديها .لو كانت على قدر من تُهدى إليه لكانت أكثرَ من هذا بكثير"!.ضحكنا و ودعنا الشيخ في متجره زوالا و عدنا إليه في بيته ضحوة غدٍ الأحد.استقبلنا في غرفة نومه بالطابق الأول من منزل مواضع حيث كان زواره على قدر المزور و هم أكثر بكثير من زبنائه و أكثر منهم سخاءً!كان الشريف الحسني الصالح هو من استقبلنا عند المدخل كما استقبل غيرنا من الزوار و من الهدايا منفردةً أو مقرونةً بالتماس الدعاء من الشيخ.فما ذا دار في ذلك اللقاء ذلك ما يكون موضوع تدوينتنا ليوم غد إن شاء الله مشفوعا ببعض ما رويته من أخباره عن من اتصلوا به من أعيان بلادنا أمثال د.محمد المختار بن ابَّاه و د.جمال بن الحسن و السيد ببَّها بن أحمد يوره. رضي الله عنه و نفعنا ببركته
Commentaires
Enregistrer un commentaire