نماذج من عبقرية أهل هدَّار..

نماذج من عبقرية أهل هدَّار..
أولا: بين امحمد بن مُحمدْ بن هدَّار و إخوته
==================
 رويتُ من أكثر من مصدرآخرها أخي محمد بن المختار بن عابدين بن هدَّار أن أبناء هدَّار امحمد و إخوته باب و سيديا .و عابدين وفدوا على الشيخ سيد المختار بن الشيخ سيدي محمد بن الشيخ سيديَّ الكبير (الجالس في الصورة الأولى و يقف إلى جانبه سبطه محمد ولد المختار ولد داداه الذي توفى منذ حوالى اربع سنوات عن عمر يناهز المائة) .
و في الطريق تمالأ الإخوة دون أخيهم الأكبر امحمد فقالوا: أمَّا  هذه فلنختبرنَّ فيها أخانا في ما اشتُهر به من سرعة بديهة و قرب مأخذ و عبقرية متألقة.فقالوا له: يا أخانا لقد انعقد منا الإجماع على أن نُرجيءَ مدح الرجل حتى نعلم حظنا لديه من الإعتبار فننسج مدائحنا على ذلك المقدار.سارع امحمد إلى قبول المقترح و فرح به أيَّما فرح و ما كان ذلك عليه بعزيز و هو المعروف لدى الجميع بأنه طيِّبٌ هيِّن ليِّن صفيُّ .
 نزل الضيوف بالحي في خيمة أعِدَّت خصيصا لضيافتهم و ما حاد القوم عن طبعهم المعهود في إكرام الضيف فكان لهم بهم حفاوة و عناية. بات الشعراء المتمالئون في أهنأ حال و أذهانهم منشغلة في ما ينسجونه من حسن مقال ، مصروفة إلى إحكام خطة الإحتيال حتى لا يخطر للضحية منها خاطر على بال.حضروا نصوصهم على حين غرة من أخيهم بتعاون وثيق أكسبهم كامل الثقة و بالغ الرضى بما أنتجوه من نصوص.
 باتوا في هناء و سلام و باكرهم الحي بصنوف الضيافة و الإكرام حتى إذا طلعت شمس الضحى ما هالهم إلاَّ الشيخ نفسه يتقدم إليهم في موكب مَهيب و بأحد جانبيه من يحمل هيدورته و بالجانب الآخر طالب يمسك بيده اليمنى قلم رصاص و باليسرى كناشا يحتوي على رزمة من الورق الناصع البياض.
 أسرع الضيوف إلى خارج الخيمة و هنالك لحقوا بالشيخ فتعاقب المتمالئون على السلام ثم الكلام،فانطلقوا يُلقون مدائحهم بأداء يناسب جلال الموقف و جودة المديح و قدر الممدوح.
 انبهر الحاضرون بالمشهد الأدبي الرائع و لكن الأدباء أنفسهم كان انبهارهم أكثر بالطالب المراهق المرافق ذي القلم و الكناش الذي كان يتلقف المدائح تباعا إبَّان إلقائها فيرسمها بسرعة خاطفة في كناشه المحمول بصورة موازية لوتيرة إلقائها دون أن يستفسر أو يعيد إليها النظر ، فإذا بالمتكوب بديع الخط واضح مفصَل، و بالنص مرسوم طبق الأصل.
و مباشرة بعد اكتمال الإلقاء فوجيء الإخوة المتمالئون  بأخيهم امحمد و قد وضع يده في يد الشيخ تلقائيا و هو يلتفت إلى الكاتب البارع يلملم أوراقه فيقول له: يا هذا ألا فاكتبْ !و أنشأ مرتجلا:
ٱتمشَّيت ٱفشِ تِمشَّايْ == طلْع ابتيت ٱكبار ٱفشِ جايْ
طلْع ابتيت اسوَ كاع الْ رايْ == هومَ بعْد ألَّ طِلعْ ٱكبار
أ وسيت الراو رايْ أرايْ == عندِ ذاك ٱندَوَّرْ يِحرار
 الراوِ لعاد ألِّ رايْ == بالرَّاي إعود الراو حار !
ماهْ أعليهْ المدار الجود == مركَبْ سيد المختار اندار
و إلى دارُ دوَّار إكود == و إلى دار ٱفسيد المختار
 الدوَّار ألِّ دار إعود == ألِّ دار أعليه المدار
راهْ اصَّ لعباد ٱلْ لعباد == ما تعطِ شِ كون إلى راد
لِكْريم القهَّار الجوَّاد == معطَ دون القهَّار أخبار؟!
ذاك ألَّ ٱثرُ شِ باطل عاد == راسل بيه العبد القهَّار
 ٱمعَ عبدُ غير أَثرُ زاد == رسَّال أمعَ سيد المختار!
تلاحظون تدرُّج التفكير لدى هذا الشاعر العبقري فهو في الطلعة الأولى ما تراءى له بعد من موضوعه سوى مجرد الروي و البتِّ فشغل بهما الكاتب و الحاضرين في انتظار أن تتحدد ملامح أفكاره و من هنالك تبادر إلى ذهنه موضوع الكرم الذي اعتبره مفتاح شخصية الممدوح فاستراح هنالك استراحة محارب قبل أن يستقيم تفكيره و ينفذ إلى صلب الموضوع فيبدع إبداعا في طلعته الأخيرة التي جاء فيها بمعنى دقيق لم يسبق إليه!
هذا و قد أخبرني محمد بن هدَّار أنه أدرك من قومه من يحفظ إنتاج الإخوة الآخرين.فيا ليته لم يضع.
ثانيا: بين سيديا بن هدَّار و محمدن بن بابَّاه ..
==========================
 دائما روايةً عن أخي محمد بن هدَّار : بينما كان سيديا بن هدَّار و محمدن بن بابَّاه (و هو ابن أخيه لأمه و هو أصغر منه بطبيعة الحال) يتجولان يوما على فرس لهما في مكان ما من محيطهما الساحليِّ المعهود، إذ أبصرا مخيَّما حديثَ الحل في ذلك المحل.و بينما هما يتساءلان من عساه يكون النازلون إذ تبيَّنوا بالقرائن أنها محلة أمير الترارزة أحمدْ سالم بن ابراهيم السالم (انظر الصورة الثانية).
 قررا أن يُقدما على الأمير فيؤديان واجب السلام و المدح كذلك.و اتخذ سيديا المبادرة في تنظيم الزيارة لأنه الأسن فوزع بينهما الأدوار بما تتطلبه من الحكمة و الحِنكة و السرعة كذلك إذ أن المخيم ماثل يقترب بقدر ما تركض الفرس في اتجاهه ركضا.
 قال سيديا لابن أخيه المرافق : أما أنت فاجتهد في مدح فرس الأمير لما تعلم من صفاتها المحمودة و مكانتها الكبيرة في قلبه! و أما أنا فسأكفيك مؤونة مدح فارسها البطل الأمير.قال محمدن بن بابَّاه: فأنشأت طلعة فيها اجتهدت و أجدت ما وسعني ذلك فذكرت من صفات الخيل أحمدها و انتقيت فرس الأمير من أرفع سلالاتها و ذكرت تفوقها في صنوف سيرها المعروف و براعتها ساعة الحرب إلى غير ذلك مما لا يدركه و يعبر عنه إلاَّ ذوو الإختصاص من العارفين.و بعد هنيهة سألني سيديا قائلا: ما ذا بجعبتك؟ فأنشدت له ما أنشأت بنشوة و اعتزاز فقلت:
ماهِ للراكب تركيكه ==تبارك الله اعتيكه
كميتي كيف اعكيكه == من تاجْ الحمرَذيكي
تمرك للوسْعْ أمن الظيكه== و ألاَّ نكريها حسني
 ما تغلبها فالتركيكه == و الرحروحه و المشليَّ !
أنشدت هذه الطلعه استجابةً لطلب العمِّ و لكن ما هو استحسنها و لا هو راجعني في شيء منها !
استغربتُ كيف أنه يكلفني بمهمة ليست باليسيرة حتى إذا ما أنجزتها بسرعة و إتقان كما أتوهم يسألني فأحسن له فيها الأداء فيكون حظي منه الصمت المُطبق ! و قد هممت بأن أكلمه في ذلك لولا أن داهمنا الزمان و المكان فإذا بنا في رحاب خيمة الإمارة و الأمير واقف أمامها في أبَّهة و وقار و على مقربة منه فرسه الممدوح فنزلنا بالسرعة التي بادر فيها سيديا إلى النزول و السلام على الأمير و أنشد مادحا على وقع حنين الفرس:
ايدك يل واكف لكلام == عنك يوم إظل الوشكام
يزَّاوَ و البارود اغمام==و اطروفت لعدُ مِلكيَّ
و اشحالك ياكبير التخمام==لمساوِ مي و اجدي
ياغليظ الحسبَ يلِّ تامْ == حسبك ماه فم ارخي
يل فالحسب حَسْنِ مامْ==خيبتك زاد الحري
(ؤُلاه للراكب تركيكه ==تبارك الله اعتيكه
كميتيه كيف اعكيكه == من تاجْ الحمرَ ذيكي
تمرك للوسْعْ أمن الظيكه== وألاَّ نكريها حسني
 ما تغلبها فالتركيكه == والرحروحه والمشلي)!
قال محمدن بن بابَّاه: هنا هجتُ غضبا و لكنني في ذات الوقت تملكني شعور آخر أقوى هو الإعجاب الفائق بسرعة بديهة عمِّي و بقوة حافظته إذ حفظ طلعتي من حكايتي الفريدة لها و بذكائه الخارق إذ أبدع في توظيفها فدمجها في إنتاجه دمجا حتى جاءت كتلة موحدة كالبناء المرصوص .

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..