لُقيا بلا ميعاد مع الشيخ محمد الحسن ولد الددو!



الشيخ محمد الحسن بن ادَّدَوْ..لُقيا بلا ميعاد!
في ضحوة ذلك اليوم الرابع من تاريخ وصولنا المعتقل في مدرسة الشرطة و هو الأحد الموافق فاتح مايو 2005 ، لاحظتُ حركة لم أعهدها من قبل إلا في اتجاه مخافر التحقيق..أما اليوم فكان التحرك في الإتجاه المعاكس و كان سيلفت انتباهنا أكثر لو لم نكن قد تعوَّدنا بما فيه الكفاية على سماع طلقات الرصاص المرافقة له إذ هي كما قيل لنا مجرد تدريب يومي يُجريه أخصائي فلسطيني لصالح بعض طلاب المدرسة.
 لم تدُم حيرتنا طويلا فقد علمنا أن مؤذنا أذَّن في المعتقلين أنْ قد أُذِن لكم بالإغتسال في مستحم أُحسِن ٱختيارُ موقعه على أساس وسطيته بين التجمُّعات السكنية المتمايزة الثلاثة التي يتوزع عليها الوافدون تبعا لتصنيفهم إلى جماعة القمة و هم الأئمة و الفقهاء و جماعة القاعدة و جماعة غير المصنفين و كنت أحدهم!
 سارعنا إلي المكان المعين و لكل منا قرين يقودهُ بل يسوقه و هو الشرطي المكلّف بحراسته و ربما تحدوهُ غِبطة بأنّ صلاحيّاته الخارجيّة قد إتّسعت يومَذاك لتتجاوز المرافقة في مهمة التحقيق أو لِقضاء حاجات إضافية في أماكن مشتركة هي الأخرى و لكن تبدو فيها المرافقة أكثر إحراجاً.
 أخذت مكاني في صفٍّ بدأ متوسِّطا و لا زال يتمدّدُ على الدّوام حتى إذا جاء دوري دخلتُ و كنتُ من المحتالين المحظوظين الّذين سلمتْ أجسامهم وملابسهم من المياه الرّاكدة في المنفذِ الوحيد المؤدّي إلى المُسْتَحَمْ.
 لم أكن أستوعبُ كيف تجمّعت تلكَ المياه في ذلك المكان بالذّات حتى تَبيّنتُ أن لا رشّاشَ وأعني بهِ ذلك الّذي يكبحَ الماءَ المتدفقِ من فوق رأسِكَ فيوزِّعه بعدالةٍ و رِفقٍ على سائر الجسمِ وإنما هيّ " تِيوَةٌ " صدأتْ فتآكلتْ فألقَتْ طرَفَها الموزِّع الرشّاشَ ، فصبّتِ الماءَ صبَّا بمقدارٍ لا تستطيعُ ضبطهُ لأنَّ أداةَ التّحكُّمِ نالت حظّها من التّقادمِ فلم تعُد طيِّعةً في يدكَ، ففاض الماءُ على جسمكَ و ربما سالَ إلى الخارج فخلقَ بذالك مُستَنقعاً عند المدخلِ لا مناصَ من المخاطرة بعبورِهِ.
 حاول السّادةُ السّابقونَ منّا أن يكون هذا المعبر سالكا فزرعوه بأحجار ناتئة جعلوها معالم في الطريق حسنٌ بِناؤها إلاَّ أنَّ من زلَّت به قدمه عنها فمآله إلى الإنزلاق المحتوم !
دخلت بصعوبة و خرجت بأعجوبة..و إذا بالصف قد ازداد عددا و مددا .فقد جعل الله حافة ذلك المستنقعِ موْرِداً تداعى إليه البعضُ فانعقدَ عندهُ اللقاء و ربما كان فرصة للتعارُف لأوّل مرّةٍ بين المعتقلين من مختلف الفئات.
 توسّطَ الحلقة بين هؤلاء رجل ذو هيبة و وقار أثّر وجودهُ على استقامة الصفِّ و على انضباط المنظمين له والمنتظمين داخله من الحرّاس و المحروسين على حدِّ سواء.
 تحلّقَ ذوو الحوائج من هؤلاء و أؤلئك حول ذلك الرجل المهيب المرسومة صورتهُ في مكان ما من الذاكرة فأحاولُ أستجلاءها فأجدُ صعوبة في ذلك.
 كان الرجلُ يباسطُ الجميع بدونِ استثناء ،يداعبُ هذا و يمزحُ مع ذلك و يسألُ معتقلا متى جاء و يستغربُ من وجودِ معتقلٍ آخر مثل أحدِ جيراننا من الأئمة ذي القيد الوثيق.
 لفت انتباهي لدى ذلك الرجل أنه لم يكن يرتدي إلّا سراويل و قميصا ذا أكمامٍ طويلة فقط. قُلتُ في نفسي لعلّ غياب الدّرّاعة مؤشرٌ على أنّ المعنيّ حُظيّ بتمييز إيجابي أخبرهُ بموجبه العالمون بضرورة مثل ذلك الإجراء للعبور بأمان و بلوغِ وجهتهِ بسلام .
 كان هو الموالي في الصّفِّ و لذلك بادرني بالسّلام و ما أراد أن يحرِمَ جماعَتهُ أُنْسَ ذلك اللقاء الحاصلِ صدفة بلا ميعاد !
 حَنِنتُ إلى الإستماعْ أكثَرَ من حنين رفيقي إليه فاضطررت لمُسايرتهِ قافلين إلى محلِّ الضيّافة المعروفة باصطلاح الحرّاس ب " قاعة ول ميني" إذ فيها كان مقام ذلك الضابط السامي ابّانَ مرورهِ من هناك.
 وقبل أن أبرحَ المكانَ خطر ببالي أن ذلك الشخص المعتبر قد يكون هو الشيخ محمد الحسن بن الددو و لم أكن لقيتهُ من قبل فسألتُ أحدَ الجيران من جماعة القاعدة في نهاية الصفّ فأكد لي ذلك بنبرة تُعبِّرُ عن امتعاضه من جهلي بعين من أعيان هذا البلد بل الأمة جمعاء و الذي تجمعني و إياهُ دوائر الإعتقالِ و الظروف المشتركة و ربّما الإتهام .
 حُرمتُ إذن عن جهل فرصة الإستفادة من تلك الندوة العابرة.فلو أن تلك الفرصة كانت قد أتيحت ليَ لكنت عدتُ إلى جماعتنا الخاصة على الأقل بفتوى نحسم بها ذلك الجدل الفقهي المحتدم حول جواز تقييد تلك المرأة ذات الرتبة العالية في سلك الشرطة الوطنية غيرَ المَحرم أو فكِّها عنهُ القيدَ لغرض تأدية الصلاة أو لتأدية ما تؤدَّى به من واجب التغذية الضرورية للجسم!
ذلك حكم طالما أرَّق صديقَنا الحميم و رفيقنا في المعتقل الصحفي محمد عبد الله الملقب بلّيل بن محمد فال!
 هذا و كم تمنيتُ لو سمحَ لي الحارسُ بالعودةِ حتى أُدركَ الشيخَ فأروي له قصة العارف بالله ابراهيم ابن أدهم كما رواها أستاذنا المختار بن حامدن (اتّاه علما) للشيخ المصطفى بن الشيخ القاضي رحمهما الله عندما التقيا صدفة في ظروف مشابهة.
التقى الرجلان في عيادة  إذ شاءت الأقدار أن تكون مواعيدهما مع الطبيب متزامنة وكان لكل واحد منهما وعكة صحية تحرك من أجلها من بلاد بعيدة ليقضي الله لقاءً بينهما طالما انتظراهُ واشتاقا إليه و لكن في ظروف مغايرة بدون شك.
قال المختار للشيخ المصطفى دعني أقصَّ عليك قصة إبراهيم بن أدهم تيامنا ببركة ذلك العبدِ الصالح.
كان ابراهيم بن أدهم مسافراً في منطقة لا يعرف فيها احداً فحان وقت النوم فافترش  مكانه في مسجد و استلقى فيه لينام فاعترض الحارس . و بعد تجاذب قام الحارس بجر ابراهيم بن ادهم برجله إلى الخارج جراً حتى وصلا إلى خارج المسجد صادفا محسنا تدخل فعرض على الضيف المبيت عنده فذهب معه .
 و هناك تفاجأ ابراهيم بن ادهم بكثرة تسبيح هذا الرجل وقد كان خبازاً وهو يعد العجين و يعمل في المنزل فنام عنده وفي الصباح سأل ابراهيم بن أدهم الخباز قائلا : هل رأيت أثر التسبيح عليك؟ فقال الخباز نعم ، ما دعوت الله إلاَّ استجاب لي إلاَّ في دعاء واحد لم يستجب حتى الآن ، فقال ابراهيم بن أدهم وما ذاك الدعاء ؟ فقال الخباز أن أرى ابراهيم بن أدهم ! فقال ابراهيم : " أنا ابراهيم بن أدهم فوا الله إنني كنت أجرُّ إليك جرّاً ، وها قد أستجيبت دعواتك كلها "!
هذا و إن  لجهل الأعيان من المساويء أكثر من كونه مَجرحة كما هو معلوم ، تبيَّنتُ بعضها من خلال مجاورتي أحد أصحاب الشيخ في المعتقل.
 كان جاري و نعم الجار و الصديق د.سيداتي بن ٱعلِ الكوري لا تطمئن نفسه حتَّى يأتيه رسول الشيخ كل ليلة يحمل إليه نصيبه من الهدايا الرمزية التي يوزعها الشيخ على أصحابه و هو علبة من قطع السكر و قارورة من عصير المانكَو كبيرة الحجم.
 كان جاري ذو النية الصادقة و الإعتقاد الراسخ رغم حرصه على الإحتفاظ بهدايا الشيخ يقاسمني دائما بعض تلك الخصوصيات.
 بقي أن نعلم أن بعض الحرَّاس أنفسهم هم من كانوا يؤدُّون مثل تلك الخدمات للشيخ و لغيره من المعتقلين ابتغاءَ الأجر بطبيعة الحال .و الأجر لا تنقصه الإجاره == بشرى لنا بهذه البشاره .. كما قال الناظم!

رحم الله الساف و بارك في الخلف..

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..