من ديوان الشعر الفصيح : مساجلات أبوية مع لمرابط محمد سالم ولد عدُّود رحمه الله..

المرابط محمد سالم بن عدُّود..
ثلاثة مجالس ثقافية في العاصمة حُظيت بارتيادها مبكرا دون أن أفقه كبير شيء مما يدور فيها.ذلك أن طموحي أو فضولي على الأصح كان يفوق سنّي و يتجاوز مستواي الثقافي القاصر المحصور في برامج السنوات الأولى من الإعدادية.
 حضرت مجلس القاضي العلامة ابَّ بن انَّ في منزله الحكومي المتواضع المستحيل بعده عمارة شاهقة آوت مقر موريتل ردحا من الزمن، وحضرت درس لمرابط محمد سالم في منزله في حي " إيلو أل" شمال قيادة الحرس الوطني و كنت أختلف إلى مجلس الصحفي اللامع خيِّ بابَ شياخ في مكان ما من لكصر لعله سوكوجيم حاليا.
 أما المجلس الأول فلا زلت أحتفظ منه بشيئين:أولهما مشهد الشيخ و لسانُه ينطلق تلقائيا بالآية الكريمة المناسبة كلما قرأ عليه د.محمد محمود بن امَّاه بصورة عشوائية من كتابٍ بيده يحوي ترجمة معاني القرآن باللغة الإنكليزية !و الثانية بيتان رقيقان نسبهما الشيخ لأحد شعراء بلدته ولاته و هما:
بناء "قمية " أخصاصا بمسجدنا == بعض" البنابير" أبناء " الصنادير"
أقوى دليل على أنَ الإله له == محض التصرف في كل المقادير
 أما مجلس الصحفي خيّ بابَ فأحتفظ منه بإعجابه الفائق بالمؤرخ الموريتاني محمد بن مولود و قد استدل مرة على سعة اطلاعه و دقة حفظه فقال:حكيت له مرة بيتا نسبته لجرير قال بداهة إنه ليس في ديوانه فقلت إنني من ديوانه حفظته حتى إذا التقينا فيما بعد فإذا بنا كلنا مصيب و منشأ الخلاف اختلاف الطبعتين.و بالمقابل فقد سمعت محمد بن مولود مرة يقول:أنجزت دراسة قديمة عن أحد أعمال محمود تيمور و نبهني خيِّ باب إلى شيء فاتني في ذلك المرجع.
أما لمرابط محمد سالم فقد سمعته مرة يروي عن والده قصة  حفظِه الخارق لقطعة للعلامة امحمد بن أحمد يوره و ذلك على النحو التالي:حل لمرابط محمد عالي بن عدود ضيفا ذات صيفٍ على الحي المقيم به آل أحمدْ يوره في مكان ما من منطقة إكيدي فصلى العشاء مع الجماعة في المسجد و هنالك أنشد امحمد قطعة في الإستسقاء و بعد حين طلب منه البعض إعادتها فامتنع بحجة أن القوم لم ينفعلوا معها ابَّان حكايتها بما يتناسب مع قدرها ثم انفضَّ الإجتماع فإذا الضيف قد حفظها فنقلوها من عنده و هي هذه:
هذا العيال وإن طغى في فسقــه == من ذا الذي يسقيه إن لم تسقه
ياربنا والهنا يا شامــــــلا ==كل العباد برفقه وبرزقـــه
عجل علي " ذي المزن" مزنا جاعلا == "بئر الطريق"طريقة من طرقـه
وعلى "العجائز" تستهل كعــابه == فتنال حظا وافرا من ودقــه
متتبعا آبارنا فـــــكأنمــا == فهم الحقيقة وحده من حذقـه
ونرى ثراه الجعد غــــب سمائه == يخفي الذراع المستطيل بعمقـه
ونرى الرباب علي السحائب ضمنا == أن لا نراع برعده وببرقــه
ونرى الرياض وقد تفاوح زهـرها == فوحان مسك فائح من حقـه
ونرى الزمان وكان قبل مغاضــبا == يلقي الورى ببشوش وجه طلقه
يا ربي صل على بعيثك آخـــرا == وهو الأول لفضله ولسبقــه
 و أعود فأقول بأن علاقني بالشيخ محمد سالم بدأت بالفعل مع منتصف السبعينات عندما جئته في مكتبه بقصر العدالة " الحجري " لأجري معه مقابلة لصالح جريدة "الشعب" يناقش فيها قيام الدولة الصحراوية من منظار قانوي بحت.
 و تشاء الأقدار أن أكون المحرر المنتدب من قبل رئيس التحرير لإجازة المواد المعدة للنشر في عدد الغد لدى معالي الوزير! نعم ..كانت ظرفية الحرب تقتضي ذلك.جئت وزير الإعلام السيد المصطفى بن محمدُّ بعد الزوال في منزله. فوجئت بالسيد الوزير يبادئني الحديث في موضوع المقابلة و لمَّا تكتمل بعدُ فيصدر تعليماته السامية بحظر نشرها!لم أحتر طويلا في معرفة السبب فقد زارنا ضحوةً في مكتب الشيخ مفوض ممن نصنفهم في عداد المتفقهين من المسؤولين.
 و لعل ذلك اللقاء العابر عقده الله بيني و بين الشيخ يومذاك ليوجه إلي فيه تلك النصيحة التي ما فتيء يَذكرها كلما التقينا فتُضحكه .قال لي الشيخ :" يابنَ فلان، هل ترضى لنفسك بأن يقتصر حظك من العلم على الحد الذي تتقاسمه مع عموم التلاميذ على مقاعد المدارس النظامية ؟!".و لم يعلم الشيخ أنني كنت أقلَّ هؤلاء قسما في القسم وقد عزفت عن المدرسة هي الأخرى إلى زهيد من المال و الأعمال.
 المهم أن تلك النصيحة أثرت في نفسي كما تؤثر الرقائق من المربي عارف المسالك في قلب المريد صادق التوجه إلى الله و لكن لم يصاحب ذلك لا سير و لا سلوك و لا حال و لا مقام!
 لم تتواصل علاقتي المباشرة بالرجل و لكن إعجابي به لا زال يتضاعف كلما سمعت منه أو عنه أو قرأت له أو قرأت عنه أو لقيت أخي و صديقي المرحوم جمال بن الحسن فحدثني بما يُبهر العقول من علمه و مآثره و نكته و نوادره فقد لازمه مبكرا و سرعان ما "انحرفت" علاقتهما إلى شكل الصداقة الحميمة التي تخترق حواجز السن و تعبث ببعض الإعتبارات التقليدية!و لعل العامل المساعد في ذلك هو ما يجمع الرجلين من قواسم العلم و الفهم.
 أما أنا فكانت علاقاتي به على قدر فتور قريحتي و قصور همتي إلا أنَّ من فضله عليَّ أنني ألقى لديه دائما ما يوهمني بأن لديَّ حظوة عنده إلى حدِّ أنه شرفني مرة فلبَّى دعوتي لحضور تظاهرة ثقافية محلية في ابَّير التورس ألقى فيها محاضرة مشهودة إلى جانب كل من العلامة حمدا بن التاه و الأساتذة سيد أحمد بن الديْ و هيبتن بن سيدي هيبه و محمد الأمين بن الكتاب و محمد بن أحمد بن الميداح "دمب علما" مندوبا عن وزارة الثقافة للإشراف الرسمي على الملتقى.
ما ابتدأت الشيخَ يوما بشعر إلاَّ و كسر حاجز الفرق بيننا في السن و الشعر و بادر ملاطفا بالإجابة السريعة!
و أورد فيما يلي نماذج من ذلك.
1 .في نهاية الثمانينات كنت أستاذا باحثا في المدرسة الإدارية رئيسا لتحرير مجلتها المتخصصة الإداري فهممنا بنشر نظمين للعلامة محمد سالم بن عدود حول مباديء الإدارة و القانون الدولي فكان يشترط إرفاقهما بشرح وضعه عليهما صديقه هارون بن الشيخ سيديا رحمهما الله فلم نستطع فنيا فكتبت إليه رسالة إدارية و هو إذ ذاك وزير ضمنتها هذه الأبيات فأجاب بالإيجاب:
أيا من لمعوج الشريعة قد أسوى== مُلِينًا بنور الفهم ما قد قسا قسوا
وما الذهب الإبريز و التبر خالصا== كمثل رديٍّ في النقود قسا قسوا
فيا حبذا نشرُ «الإداريِّ» نظمَكمْ == عليكمْ إذا في نشرها نصَّهُ « يَسْوَا»!
و أثناء متابعة الرسالة كنت أمكث بعض الوقت في قاعة الإنتظار فأوحى إلي ذلك بالأبيات التالية:
يؤم الشيخ بالديوان قوم == تباين قصدهم عند الورود
فبعضٌ للتزوُّد من علوم == تُلَقَّى ما لديها من حدود
و بعضٌ للتزوُّد منه تقوًى == و بعضٌ للتزوُّد بالوَقود!
22 .قرأت هذه القطعة مباشرة خلال البرنامج المفتوح في الإذاعة مع فضيلة لمرابط محمد سالم بن عدود ليلة الجمعة من رمضان-1998 :
يا ندوة العالم الندب ابن عدود == عودي علينا ببث منه مشهود
عودي علينا ببث حان موعده == أو فلتعودي ببث غير موعود
فإن في البث بثا للعزاء وكم == رمناه عبر طريق جد مسدود
عبر الأثير أثرنا كل نازلة == كي نستثير لعهد منه معهود
فيه لأسئلة الطلاب أجمعها == رد عليها بنص غير مردود
فيه لذا الشعب عز عز مطلبه == وللبلاد سمو غير محدود
كأن ذا الشيخ حين البث يحملنا == عبر الأثير إلى عهد ابن مسعود
سر إليه سرى من دوحة شرفت == تسمو بسعي لها في الناس محمود
فالله يحفظه حلا ومرتحلا == والله ملجؤنا في كل مقصود
بالمصطفى المرتجى في كل مسألة == وبالنبي سليمان بن داوود
فأجاب فضيلة الأستاذ الجليل لمرابط محمد سالم مرتجلا بهذين البيتين :
قد ضاق وقتي هنا عن بذل مجهودي == حتى أصارف منقودا بمنقود
من شاعر قد نماه خالنا صعدا == كما نماه الإمام المرتضى مود
3 .خطابا لحي أهل عدود بمناسبة تعزيتهم في فقد محمد يحي بن محمد عالي بن عدود :
أحمد الناس خصالا == رزؤكم في النفس حزا
ما أتينا لنعزِّي == بل أتينا كي نعزى
فأجاب العلامة محمد سالم بن عدود :
الصدور الزور عزا == والشعور الشعر هزا
قد عززتم إذ بززتم == وكذا من عز بزا
4 .في أيام 7 ،8، و 9 أغسطس 2004 انعقدت في مدينة شنقيط أيام تفكيرية حول إصلاح القضاء .إبان الجلسة الإفتتاحية أنشد العلامة المرحوم محمد سالم بن عدود الأبيات التالية:
أيام شنقيط للتفكير مشهوده == وأرضها لقرى الأضياف معهوده
وقد دعتنا لتطوير القضاء معا == فليبذل الكل فى التطوير مجهوده
بما يحقق شرع الله جل وما == تغدو به سبل الإجراء ممهوده
فقلت في الجلسة الإختتامية :
يا ملتقىً لستُ أدري للوفا ماذا == أُسدي إليه جماعاتٍ و أفذاذا
 أدعو بحقِّ مواثيقٍ لنا جمعتْ == لا كان آخر عهد بيننا هذا!
5 .لقيت الفتى حمدا بن لمرابط محمد سالم لأول مرة بعد وفاة والده و ذلك في روصو بمناسبة استقبال رئيس الجمهورية يوم الجمعة 06-04-2012 فتحرَّكت مشاعر في اتجاهه فقلت:
حمدنا على طي المواثق و النشر == من أوثقها "حمدا" يدوم إلى النشر
"مبارك" عهد عند "أكننت" أصله == به ثابت و الفرع يطلع بالبشر
فأكننت ذي "أم القرى" بربوعنا == غذته بطبع طيب العرف و النشر
و لا خير في ربع ترعرع و انتشا == إذا كان ضد الطبع في الربع يستشري
وقد صين حق الطبع غضا بنشره == و يحفظ حق الطبع من هم بالنشر
قبضنا على عهد لخمس بعشرة == و لا سدل بعد القبض إذ تم بالعشر
ندين به دينا و دنيا و إننا == نموت عليه ثم نبعث في الحشر !
و لا يخفى ما في هذه القطعة من اقتباس من البيتين الشهيرين للقاضي محمدن بن باركلَّ و من  إحالة إلى ما قاله العلامة محمد عالي بن عدود في تقريظ إعلان 14 رمضان 1366 هجرية موافق 2 أغشت 1947 المنعقد في اندرْ القاضي بتجديد عهد تشمشه على كثيب أكننتْ في منطقة إكيدي.
أتانا كتاب طيب الطي و النشر == يترجم عن ملء الجوانح بالبشر
يخبر أن الخمس ضموا خلائقا == تجمعن فيهم لا افترقن مدى الدهر
فعادوا كما كانوا و طابت نفوسهم == فلا طر أوبار الجراب على النشر
 و قد أكدوا ما أسسوه و إننا == قبضنا على ما ضمه الخمس بالعشر
و في ذات السياق يقول لمرابط محمد سالم بن عدود:
و إن تكن الخمسُ الأصابعَ إننا == أظافرُ في ذاك البنان المُقسَّم
تحكُّ بهنَّ الخمس ما انحكَّ طبُّه == فينفذنَ حتى يختضبن من الدم
فإن قلَّمت أظفارَها الخمسُ كُلِّمتْ == و إن وفَّرتْ أظفارَها لم تكلَّم
 و من يعص أطراف الزِّجاج فإنه == يطيع العوالي رُكِّبَتْ كل لهذم
بقي أن نعلم أن المرابط محمد سالم كان من عباد الله الصالحين و له في ذلك أحوال غريبة يخفيها فلا تصدر منه إلاَ غلبة و أعلم منها بعض ما يعلمه الخاصة من ذويه المقربين.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..