بين المختار ولد هدَّار و محمد ولد أبنُ ولد احميدن رحمهما الله

نصائحٌ صائبة لصيانة الموهبة ..
حدّثني أخي وصديقي الأعزّ محمد ول المختار ول هدّار وقاهُ الله من كلِّ عارْ قال : كنتُ وإخوتي مرّةً في جلسة عائلية حميمة فخاطبنا والدُنا المختار ول عابدين بن هدّارْ رحمهُ الله بعاطفة أبوية صادقة فقال بلهجة النّاصح الأمين : اعلموا يا أبنائي أنّ الله قد أورثكم سِرّا عظيماً إذ أودعكم فضيلةَ الأدب مجسّدةً في ملكة قرض الشعر الحسّاني فجعلها فيكم كالسجيّة والطبعِ . جعل الله لكم هذه القدرة ميزة و لكنه لم يجعلْها حَكْرا عليكم دون غيركم من سائر بني جلدتكم.
 فعليكم إذن أن تحمدوا الله على تلك النعمة السابغة التي تسرُّ و لا تغرُّ.و ٱحرصوا على صيانتها بحكمة و إياكمْ و الشططَ في استخدامها.فإن هذا السر ما اضطررتم للجوء إليه إلاَّ و أسعفكم بسخاءْ ، و ما فرَطتم في توظيفه إلاَ و فاجأكم منهُ جفاءْ , إذ قد يصادف أحدكم من حيث لم يكن يتوقع من أوتي ملكة موازية أو أُودع قدرة مساوية ، و سأَروي لكم من تجربتي الشخصية في هذا المجال مثالين كلاهما ذو دلالة واضحة.
 أما المثال الأول فهو أنني كنت مرة  في مدينة اندر بالسنكَال فسمعتُ من حيث لم أكن أتوقع أن أسمع صوتا شجيًّا على إيقاع مزاميرَ بارعة الأداء في اتجاهِ معين، فيممتهُ فإذا به مجلسُ طربٍ فاخرٍ تتصدّرُهُ جماعة أكبرُ مني سنًّا إذ أنني لم أبلغ من العمرعشرين سنةً بعدُ ، فعرفتُ منهم عمّي بزيد ولد هدّارْ.
اتخذتُ لنفسي طبقا لما تقتضيه العادة من ضرورة احترامِ الأسنْ مكانًا من وراء ستار بحيث لا أكون باديا للأنظار..
 أخذتني نشوةُ الطربِ فأخرجتُ عفويًّا منْ جيبي" بيتاً مترعًا كَرْكَريّةً "فملأتُ منها العظمِ وأمسكتهُ بإحكام بين أصابعِ اليدِ اليسرى وأثبتُّ "النَّكشةَ" على "التِّمِّيشَةِ" واضعًا إيّاها في مكانها المناسبِ في جوارِ العظمِ من ذات اليدِ بين الإبهامِ والسّبّابة وتناولتُ "الزّنادَ" بقوةٍ بين ذاتِ الأصبعين من اليدِ اليمنى ، وما إن رفعتُها حذوَ أذني لأكمل العمليةَ حتّى أدركني "شور" يوشك المغني أن يتجاوزهُ
بادرتُ فألقيتُ  إليهِ فيهِ "كافا" أبدعَ في ترديده بشجيِّ أَلحانه وبالغَ في استحسانهِ. وبسرعة خاطفةٍ أنشد برديفهِ أنشأهُ أحدُ أفراد الجماعة فإذا فيهِ ردٌّ صريح على "كافي" لا يخلو من استهدافٍ واضح على أساس تأويل مغلوط لفحوى خطابي . وبسرعة مكافئة أجبتُ ب"كاف" مماثل. وهكذا دواليك إلى أن بلغ العددُ الإجمالي ستة عشرَ "كافا" في "الشّورِ" !
 عندئذ فقط تنفستُ الصُّعداءَ إذ أحرزتُ تقدما ملحوظا على منافسي بحيثُ استطعتُ إيقادَ النارِ في العظمِ وأخذتُ منهُ بقدرِ ما التقطتُ من أنفاسٍ فأصبح الشعرُ طوعَ لِساني تتزاحمُ عليَّ فرائدُهُ تِلقائيًّا كالواردات لا أستطيعُ لها دفعًا!
 هنالك فقط أسعفني السّرُّ إذ تواصلَتْ النّقائضُ ولم تتوقّف إلّا بعدَ أن تدخّلَ عمُّنا بزيدْ فصاح بصديقهِ الشاعِر المُنافس قائلا : على رسلكَ يا مُحمدُ .. فإنك تُساجلُ الفتى المختارَ بن أخي عابدين. عندها تبينتُ أنّهُ من أغرى المعني بمواجهتي أصلاً وأنّني خضتُ مغامرةً كبيرةً مع أحدِ فطاحلة الأدب هو محمد بن أبنو بن أحميدن !
 أمّا المثالُ الثّاني فهو أنّي كنت وبعضَ الأصدقاء في زمن المراهقة نعقدُ " طرقه" وهي التّناوبُ يوميًا بينَ الفتيانِ من سنٍّ موحدة أو متقاربة غالبا على توفيرِ شايٍ بمُقدِّماتٍ بسيطة من الفستق أو نَحوه في وقتٍ معلومٍ ، وقد يتخلّفُ ذو الدّورِ عن تأديةِ هذا الواجبِ عن عجزٍ أو عمدٍ أو خطأ . وقد لا يُغتفرُ ذلك التخلُّفُ فينالُ صاحِبهُ جرّاءه جزاءً يتفاوتُ قَدرهُ تبعًا لِدرجةِ تحمّلِ المعنيّينَ ولِمستوى تقبُّلِ الصديق المُخلِّ بالواجب لِمداعبةِ الأصدِقاءْ .
 قال المختار: تخلّفَ أحدُ الأصدقاء عن تأديّةِ " الطرقه " فداعبتهُ ب " كاف " نسيَ مُحدِّثي بعضهُ ونسيتُ بعضاً وعلق بذاكرتي منه " التافلويت " الرابعة ولعلّها ( فيك أخيرْ أتكَلّلْ فيَّ ) وما إن أنشأتُ وأنشَدتُ "الكاف " حتى بادرني مجيبا بهذا " الكاف " البديع :
مانِ لاهِ يتنزاهِ == فيك انكلّلْ وَالِّ بيَّ
دايرْ نعرف كاعْ اشلاهِ == يخسرْ يالمختارْ أَعليَّ ؟
 فبُهِتُّ إذ ما كنتُ أخالُهُ بذلك المُستوى الرّفيع من الأدب ! فبادرتُ إلى استرضائه بجوابهِ نثرًا بالقول : " صرتَك ماهُ خالك يبوي " وتواصَلَ مجلسُنا بوتيرة الدّعابة المعهودة لدى الجماعة . ولعلّ من عظمة السّرِّ المودعِ في هذه الأسرة أن جاءَ النّثرُ الّذي أجابَ بِهِ المختار صديقهُ في قمة اللباقة بل والأدب كذلك.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..