كنكوصة .. بكاف ابن زكري..

كنكوصة .. بكاف ابن زكري ..
في شهر نوفمبر من سنة 1990 وصلت والي ولاية لعصابه برقية من وزير الداخلية يخبره بموجبها بأن وفدا مهما من دولة الإمارات العربية المتحدة متجه إلى كيفه و يطلب منه أن يوليه كل ما هو أهل له من عناية و تقدير تنفيذا لتعليمات سامية من السلطات العليا في البلاد.فلوالد الفتى الضيف على بلادنا و على الموريتانيين عموما و الفقه المالكي كذلك منة كبيرة تفسر كل تلك العناية الرسمية المعلنة من أعلى هرم في السلطة .
.تحدد البرقية تشكلة الوفد على النحو التالي:
الرئيس:أحمد بن محمد الخزرجي نجل وزير العدل و الأوقاف و الشؤون الإسلامية  في دولة الإمارات العربية المتحدة آنذاك يرافقه موظف مصري في ديوانه.
يرافق الفتى الخزرجي  وفد موريتاني يتألف من أربعة من خيرة علمائنا اثنان منهم موفدان من الإمارات لأنهما يعملان ضمن بعثة التعاون هناك وهما المفتي الشيباني بن محمد بن أحمد رحمه الله و القاضي محمد بن يوسف و اثنان يعملان موظفيْن سامييْن في وزارة الشؤون الإسلامية الموريتانية و هما مستشار الوزير ابراهيم بن يوسف بن لشيخ سيديَّ و مدير الأوقاف محمد عالِ بن زين رحمه الله.
 كلفني السيد الوالي محمد بن عبد الله بن رافع باستقبال الوفد الكريم عند مدخل الولاية و بمرافقته طيلة مُقامه في الولاية و كانت سعادتي بمرافقة هذه البعثة أكبر بكثير من سعادتي بمرافقة بعثة أخرى لم يمض على تاريخ مغادرتا الولاية أكثر من أسبوع. إذ قد تباينت مهمة البعثتين بقدر ما اختلف الموقف الرسمي في طبيعة التعامل معهما.
 أما البعثة الأولى فتتألف من "غابرييل فيرال" و "غاستون " و هما الحاكمان الفرنسيان المعروفان في عهد الإستعمار إذ كان الأول واليا في العصابه قبل إقالته بتدخل من أحمدو بن حرمه لصالح محمد الراظي بن محمد محمود رحمة الله عليهما و كان الثاني حاكما في كل من المذرذره و كيهيدي و كان همهما الوقوف ثم البكاءعلى أطلال دارسة لمنازل آوتهما في عهد الإستعمار و قد تزامن وجودهما في المدينة مع استياء شعبي من التهديدات الآمريكية بضرب دولة العراق فجاء الأمر باختزال زيارتهما في ظرف لم يبلغ يوما و إلزامهما بالعودة فورا إلى انواكشوط حرصا على سلامتهما!
 و أما البعثة الثانية ذات التشكلة المذكورة فقد جاءت إلى موريتانيا في مهمة علمية تتعلق بالبحث عن نسخ من شرح ابن زكْري لنصيحة أحمد زروق و رافقها صريحُ الأمر من وُلاته بإحاطتها بالتبجيل و الإكرام .
 لمْ يكن مساعد الوالي "مسيَّرًا" (على لغة خليلنا الخليل النحوي) و لكنه مخيرٌ في السيارات التابعة للمصالح الجهوية للولاية و منها تخيَّرت أكثرها مناسبة للمهمة المنتدَبِ من أجلها.
 انطلقنا عشية فنزلنا في موقع استراتيجي في الطرف الشرقي لمدينة كامور شاءت الأقدار أن يكون ممرا لازما للطلاب الذاهبين إلى محظرة المرابط الحاج بن فحفُ أو العائدين منها عبر أحد الطرق الجبلية الوعرة المعروفة هناك.و لذلك ما أخطأنا من الطلاب طيلة انتظارنا وصول الوفد من يُشبع نهمنا من أخبار ذلك الشيخ الجامع بين الشريعة و الحقيقة ذي المحظرة العريقة.
تأخر الوفد كثيرا عن موعده المعلن و لم يصل إلا بعد منتصف الليل  فتصدَّرنا الموكب و واصلنا طريقنا مسرعين في اتجاه كيفه فما وصلنا دار الضيافة في الولاية إلاَّ سَحَرا فانقسم بها الوفد ما بين مستغفرين بالأسحار و آكلين به .
و بعد الفراغ من الإستغفار و طعام الأسحار  أبى رئيس الوفد إلاَّ أن يشرفني الوفد بكامل تشكلته بالمنام بقية تلك الليلة في منزلي فما أبيت تلك الكرامة و لكنها كلفتني من تجميع سَقَط المتاع في ذلك الوقت المتأخر من الليل جهدا من البحث الحثيث،إذ المنزل تأجيره حديث و لا حق لصاحبه في التأثيث.
 و في اليوم الموالي رافقتُ الوفد إلى حاضرة "الميمون" على بعد عشرين كيلومترا شمال شرقي مدينة "كنكوصه" حيث كان الوفد على أطيب موعد مع مخيم بدوي صرف أعده القاضي محمد بن يوسف على شرف ضيوفه المبجَّلين ضُربت فيه الخيام متقنة صناعتُها من وبر الإبل الخالص، و وزع المذق في الأوانيء الخشبية التقليدية بديعة الصنع و أُحضر اللحم مطبوخا و مشويا، و أديرت كاسات الشاي الأخضر ذات اليمين و ذات الشمال ، و بدا يلوح في الأفق ما يوحي بالإستعداد لرواح قطعان من الإبل و البقر و الغنم في موقع أُحكم اختياره من قبل المختصين من الرعاة أُعدًّ سلفا لمُزَلِها المبارك الجديد .ومع هذا كله و فوق هذا كله انعقدت جلسة علمية ممتعة برئاسة الشيخ الشيباني استغرقت أربعة أيام متتالية ما تنفض إلا لتُستأنف من جديد و لا مُعقب فيها لأي من أقوال الفقهاء المنعشين.
 و كنا نثري ملامح ليلنا البدوي الشتوي بإيقاد نار يتخلف عنها الكبار ليأخذوا قسطهم من الراحة بعد يوم حافل بالأخذ و العطاء و يتحلق من حولها البقية أي أحمد الخزرجي و مرافقه المصري و العبد لله كاتب هذه السطور و لفيف من الرعاة و مَن في حكمهم مِن الفضوليين.
 أضرب القوم عن تناول اللحم ليلا و حسنا فعلوا ، و اختاروا اللبن و هو المختار إما منفردا و إما مشفوعا بأحد صنويْه إما الكسكس غليظه و رقيقه و إما العيش حيث يتعايشان بسلام.و قد تأتي سين الكسكس مهموسة لرقة في صنعه و طبعه كما قد يفتقر العيش إلى ملح فيضطرّ مضيِّفنا إلى إذابة الملح في اللبن دون أن يتجاوز الحدَّ المطلوب فيستخدم لذلك تقنية من نوع معيَّن.
خلال هذه الجلسة المسائية تعرفت لدى الضيفين الكريمين على الشاعر الموهوب المرحوم محمد بن عبدي  إذ كان زميلهم في العمل.
 و خلالها كذلك استطعت بجهد جهيد أن أُمرِّن الفتى الخزرجيَّ على النطق الصحيح للفظ "كنكوصة " إذ كان ينطقها بكاف أعجمية حتى إذا بيَنت له أنها تنطق بكاف طبيعية أي بكاف " ابن زكْري" ففقها و ما أخطأ فيها الصواب بعد ذلك!فقد طاف الخزرجي بلدان المغرب العربي بحثا عن كل ما يفيده في تحقيق يُنجزه لشرح ابن زُكري لنصيحة الشيخ أحمد زروق.
 أما في موريتانيا و في بادية كنكوصة بالذات فقد اتسع نطاق البحث قليلا ليشمل البحث عن الذات من خلال بعض الممارسات العربية الأصيلة كالصيد البري و ركوب الإبل و ليالي السمر الأدبي الممتع.
 أما الشعر فكان حظ الخزرجي منه في انواكشوط أكثر منه في كنكوصه حيث نظمت له السلطات المختصة هناك ندوات أدبية أوسع نطاقا و أكثر جمهورا.و هو لا يزال يترنم ببعض ما علق بذاكرته من تلك الندوات كقطعة أستاذنا حمدا بن التاه عن التدخين.
 أما هنا فقد اقتصر فيه الإنتاج الشعري في هذه المناسبة السعيدة على ثلاثة مقطوعات اثنتان منها للمستشار ابراهيم بن يوسف بن الشيخ سيديَّ و هي منشورة بخطه في الصورة المرفقة و الثالثة جاءت تحت الطلب و يتجلَّى فيها الفرق واضحا بين شعر الأدباء و تطفل الإداريين على الشعر و هي هذه:
منا القلوب أ "أحمدُ" الفتى السَّلِفُ == على محبتكم في الله تأتلف
إني حلفت يمينا عند مقدمكم == علما يقينا بما يستوجب الحلف
أن مرحبا بكمُ حقا يرددها == شعب بشعبكمُ و أرضكمْ كلف
بالنطق أفصحها ميما و يتبعها == راء و حاء و باء بعدها ألف
ومرحبا قولها باللفظ متحد == لكنها باختلاڢ الناس تختلف
كم ودِدت لو أن تلك الزيارة قد امتدت و لكنها لم تتجاور أجلها المرسوم  نظرا لاعتبارات تتعلق بالبرنامج المشحون للوفد.
و دعتُ الوفد حيث استقبلته و لم تمض أيام حتى توصلت من رئيسه برقية لطيفة بالشكر و الإمتنان.
 أما القاضي محمد بن يوسف حفظه الله فألقاه في بعض المناسبات و عهدي به البارحة على الشاشة مع لجنة الأهلة ابَّان الإعلان عن ثبوت رؤية هلال شوال.
و أما محمد عال بن زين فلم يعمر طويلا بعد ذلك التاريخ و قد لقيته مرات ، و أما الشيخ الشيباني رحمه الله فقد حرصت على لقائه بعد ذلك في مكطع لحجار فحزَّ في نفسي كثيرا أنه صار يعجز عن الكلام و لم يعد يميز بين الناس رحمهما الله رحمة واسعة.
و أما أحمدْ بن محمد الخزرجي فما
 ما زلت أتقصى خبره من أخي الباحث عبد الله ولد بلال و لكنني ما رأيت صورته منذ ربع قرن من الزمن قبل هذا الصباح على الصفحة الناصعة النيرة للمصلّي على الشفيع الأديب المحب عبد الله بن بونه فأوحت إلي موضوع هذه التدوينة.
 هذا و كنت قد علمت عن طريق أحد لأصدقاء الإفتراضيين في فيس بوك أن الشيخ أحمد الخزرجي طبع بحثه ذاك في كتاب بعنوان "شرح النصيحة الكافية لمن خصه الله بالعافية" في عشر مجلدات ودون رحلة التحقيق التي قادته إلى موريتانيا و تونس والمغرب ومصر في كتاب.
وقال الأخ عبد الله بن بونه في تدوينة له " إن الشيخ أحمد الخزرجي شيخ الأنصار بالعالم  لديه تقليد حميد هو إخراج ضفيرة مباركة لديه بسندها من شعر سيدنا رسول الله عليه الصلاة والسلام كل 23 من شهر رمضان الكريم في مجلس ذكر مبارك و صلاة على سيدنا نبي الرحمة عليه الصلاة والسلام".
 قلت: سبحان الله العظيم جزاه لله خيرا و من بدأ بالنصيحة فلا يستغرب منه صدور مثل ذلك.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..