الوحي و الواقع و العقل: حول طبيعة النظر و صناعة الفقه في الخطاب الإسلاميِّ المعاصر

الوحي و الواقع و العقل: حول طبيعة النظر و صناعة الفقه في الخطاب الإسلاميِّ المعاصر
تأليف الأستاذ يحيى ولد البراء
تقديم الأستاذ عبد الودود ولد الشيخ
حُظيتُ زوال اليوم بمرافقة صديقي الأستاذ يحيى ولد البراء إلى مطبعة "المنار" في لكصر حيث شهدتُ عملية حبك النسخ الأولى المؤذنة بصدور أول طبعة من كتابه الجديد الذي يحمل عنوان:" الوحي و الواقع و العقل :حول طبيعة النظر و صناعة الفقه في الخطاب الإسلاميِّ المعاصر " و هو البحث الحائز على "جائزة شنقيطي" في العلوم الشرعية لسنة 2017.
ولحسن الحظ كنت ثانيَ شخص يُهدى نسخة من هذا الكتاب مباشرة بعد البوفسور عبد الودود ولد الشيخ الذي أحرز السبقَ لجملة من الأسباب ليس من أقلها شأُنَا كتابته تلك المقدمة الجميلة لهذا الكتاب النفيس.
استغرق إعداد الكتاب أربع سنوات كاملة كما قال المؤلف و هو يقع في 530 صفحة من الحجم المعتاد.أما مضمونه فيعلن المؤلف في التمهيد الذي قدمه بين يدَيْ دراسته أنه يتلخص بصورة مكثفة في الإجابة على ستة أسئلة يعتبرها " موجهًا منهجيا في معالجة الموضوع وهي:
أولا:ما هي الشروط اللازمة للخطاب لكي يمكن وصفه بأنه إسلامي؟
ثانيا:هل يَعرف المسلمون بالفعل أزمةً في خطابهم الديني في الوقت الحاضر أم أنَّ في المسألة مبالغةً و افتعالاً إن لم نقل محاولة تشويه؟
ثالثا:كيف واجه الفقهاء المستجداتِ الحضاريةَ التي تطالعهم يومًا بعد يوم، و هل أسسوا لمعالجتها نظرياتٍ فقهيةً أو أصوليةً أحكموا منطلقاتها و افتراضاتها و صاغوا أدوات استدلالها و أشكالَ مُقارباتها؟
رابعًا:هل أنتج المفكرون خطابا موازيا لخطاب الغرب يكون بديلا عنه ، و يُضعِفُ من شبَا التحديات التي تهدد نظام الأمة و تَهُدُّ أركان الدين؟ و هل كان هذا الخطاب مُنسجمًا مع الأصول الشرعية المُشَكِّلةِ للسلطة المرجعية التي يُفْتَرض أن يَنطلق منها كلُّ من يتكلم باسم الإسلام؟
خامسًا:هل استطاع هذا الخطاب أن يَقتحم عقبةَ انجِذاب المغلوب المُنبهر و المفعول به، المستشعر للعجز و الدونية أمام الغالب ، و أن يتغلَّبَ على النقائص و الهنات التي تَلحَقه في كثير من الأحيان من الإختلاف الثقافي،أو من النقل و التأويل ، أو من التكييف و التطبيق ، أو من كيفية ربطه بالواقع و الوقائع؟
سادسا: لماذا اختلف أصحاب الخطاب الإسلامي المعاصر في تصوُّراتهم للوضع القائم، و في تقيِيمَاتهم و أحكامهم عليه ثم في مقارباتهم للحلول و مناهجهم في المعالجات ؟ هل ذلك ناجم عن اختلاف عصر و أوانٍ، أم هو راجع إلى اختلاف حجة و برهانٍ؟ "
و بعد طرح المؤلف لهذه الأسئلة الستة ، بادر فأعلن أنه فصَّل كتابه بحسب محتوياتها تسهيلا على القاريء في تتبعه لعرض المباحث ، و قال:" و ركزنا على مسائلَ فقهيةٍ معدودةٍ تتعلق بنوازلَ معاصرةٍ أخذناها من أبوابٍ مختلفةٍ قاصدين من ذلك غايتين:
-أن نجد صورة أكثر شمولا عن طبيعة تعاطي الفقهاء المعاصرين مع المستجدات المطروحة في الساحة الإسلامية؛
-أن نُعطيَ المقالَ محتواه التجريبي الذي ينأى به عن التنظير المفرط و الجنوح نحو اللاواقعية.
"و لقد أكثرنا من النقل عن المتقدمين لكيْ ننبِّه على أنَّ هذه الآراءَ التي ينادي بها التجديديون من الفقهاء و المفكرين الإسلاميين،قد نجد لها أصلاً ترجع إليه في البناء الفقهي الإسلاميِّ العام ".
أما المقدمة المحكمة التى كتبها الأستذ عبد الودود ولد الشيخ و التي أُثبت في الكتاب نصُّها الأصلي الفرنسي إلى جانب ترجمتها العربية فقد استهلَّها بقوله:" نحن مَدِينون ليحيى ولد البراء من بين أمور أخرى بعمله الضخم الذي جمع فيه على طول ثلاثين سنة مضتْ من الجهد المضني ، كما مُعتبرا من النوازل و الفتاوى مما كتبه فقهاء النصف الغربي من الصحراء الكبرى و تخومه الشمالية و الجنوبية في الفترة ما بين القرن 16 و القرن 20 م.و هذا العمل ...قد أتاح ليحيى ولد البراء الفرصة لاكتساب حظ وافر من التبحر في العلم، لم يجعل منه فقيهًا فحسب، بل مؤرخ فقه بشكل متميِّز لا يجد ما يغبط عليه اؤلئك الذين يُعتبرون بصورة أو بأخرى ، من ألمع العلماء السابقين رفقاء رحلته الموسوعية الطويلة".
ثم ما لبث المُقدِّم أن عقد الصِّلة وثيقَةً بين ذلك العمل السابق للمؤلف و هذا العمل اللاحق فقال:
"و كما انتهتْ هذه الرحلة بمادة ضخمة من المعلومات المتراكمة حول النصوص التشريعية و المدارس الفكرية و حول المؤلفين و مؤلفاتهم ، قصد يحيى ولد البراء إلى تقديم تقييم شامل لمجموع هذه الأدبيات الفقهية و العقدية ، يتوجه لا إلى الماضي الذي كان قد استجلى إلى حد كبير ، و لكن صوبَ الحاضر ، أي صوب فحص الخطاب الإسلاميِّ المعاصر ثم الحكم عليه اعتمادًا على الأرضية الصلبة التي شادها و نحَتَ صخرها من قبْلُ".
هذا و يَعْرِضُ المؤلف للمدارس الفكرية أو التيارات المذهبية الثلاث التي يرى أنها " تَصُوغُ حقل الخطاب الإسلامي المعاصر " و هي ما يسميه بالمدرسة النصِّية السلفية التي يقف أصحابها عند الفهم الحرفي للنص قرآنا و سنةً و المدرسة الفروعية المذهبية التي ينتمي أصحابها إلى أطر فقهية و عَقَدية محددة و منضبطة هي المذاهب و المدرسة الأصولية التجديدية التي تعتمد على مباحث أصول الفقه لإنشاء أقوال جديدة مغايرة لأقوال المذاهبة المسطرة المعروفة.
و يتوقف المقدم عند هذا التصنيف فيقول:" و على الرغم من أن التحليلات المقترحة في هذا الكتاب تتعادل إلى حد كبير في مضامينها و بالخصوص عند المدرستين الأولييْن ، فإن تلك الأكثر جدة في كتاب يحيى ولد البراء تتجه نحو جراءة المدرسة الثالثة ، و هي التي يمكن أن نتَّهم المؤلف بحُظوتها تعاطفه!"
و يقول الأستاذ عبد الودود ولد الشيخ إن المؤلف الذي " يعرف المتمرسون بكتاباته حرصه على الدقة و الوضوح " قد أجرى دراسةً استقصائية " كان الهدف منها هو إنتاج لوحة شاملة لرؤية العلماء المسلمين للعالم المعاصر رؤيةً عالِمَةً تسعى إلى فحص قضايا محددة من بين تلك الأكثر نقاشا في العُقُود الأخيرة".
و ختم الأستاذ عبد الودود ولد الشيخ مقدمته بما ختم به المؤلف تاليفه فردد معه قوله في الخاتمة :" إن المسلمين اليوم يحتاجون إلى خطاب إنسانيٍّ متسامح ، يتفق مع روح العصر ، و ينفتح على الثقافات البشرية بعمومها ، و يُلغي تحيّزات الآخر تجاه الإسلام كما يُزيل مخاوفنا و خشيتنا من مؤامراته المزعومة".
إنه كتاب شيِّقٌ للغاية، يُغريك عنوانُه بمطالعته، و تدفعك مقدمته إلى الغوص في مضمونه من البداية، و يشدُّك مضمونه إلى مواصلة قراءته حتى النهاية.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...