ما ننتظره من العائدين..ضريبةً على مُخالفة الهجر..
ما ننتظره من العائدين..ضريبةً على مُخالفة الهجر..
أخي و صديقي العزيز آبّه ولد امحمد ولد المختار هو من العائدين مؤخرا إلى هذا الفضاء الأزرق بعد هجره عدة سنوات.نقول للعائدين: فضاء رَحبٌ غفور رحيم. فيا ليت هذا العائد كان لنا في هذا الفضاء رجل سدِّ الفراغات الثقافية و الفكرية تماما كما كان "بوتين" بالنسبة لروسيا كما يصفه في مقاله البديع المنشور في مجلة " الفيصل" الألكترونية تحت عنوان "بوتين: إستراتيجية ملء الفراغات وواقعية الطموح".httpwww.alfaisalmag.com
ليته ساهم بطموحه الواقعي في استعادة مجدنا من خلال هذا الفضاء فكان لنا به صلاح الدين كما كان " بوتين" قيصر الذي استعادت به روسيا مجدها الضائع.
ليته بلغته الحازمة الهادئة ساهم معنا في نزع فتيل الهجمة الإلحادية الشرسة التي تجتاح بلادنا حاليا كما ذبَّ بوتن بحزم و هدوء عن مقر الاستخبارات الروسية (كي – جي – بي) في مدينة « دريسد » الألمانية ليلة سقوط جدار برلين، في 9 نوفمبر 1989م.
ليته ساهم في إرساء قواعد الأخوة الإسلامية الحقة بين المسلمين من خلال هذا الفضاء حتى تستعيد الأمة الإسلامية سابق ألقها بين الأمم تماما كما ساهم "بوتين" في إرساء قواعد حكمه، و"بناء روسيا من الداخل" و بلغ به الطموح إلى أن يحلم بأن يستعيد لروسيا "مكانتها الإقليمية والدولية".
نعم ليت صديقي العائد فعل كلَّ هذا و زيادة.
إن الأخ الأستاذ آبَّ ولد محمدْ ولد المختار هو من كبار المثقفين الموريتانيين ذوي اللغات المتعددة .يكتب بإتقان باللغتين العربية و الفرنسية و قال لي مرة تواضُعا إنه لا يقبل أن تُشكّل اللغة الإنكيزية عرقلة تَعُوقه عن أداء العمل و هو إذ ذاك من كبار الصحفيين في التلفزة السعودية " الإخبارية " في الرياض حيث قضى عقدا من الزمن قبل أن يرتحل عنها إلى الدوحة فيحلَّ بها ضيفا على قناة حكومية مماثلة.
قال لي د.هيبتن ولد سيدي هيبه مرة إنه إبّان رئاسته لهيئة التراث ما صادف دراسةً أجود من حيث الأسلوب و المضمون من تلك الإستراتيجية الإعلامية التي اشترك في إنجازها للمشروع باللغة الفرنسية الخبيران الإعلاميان:آبَّه ولد امحمد ومحمد سالم ولد ألُمَّا.
عهدي بصاحبنا يحمل ولعا بالأدب الفرنسي دائبا على متابعة ثمرات ما تُنتجه منه المطابع الغربية ..
خلال اتصالاتنا النادرة في عُطَلِه السنوية لمستُ لديه توجُّهيْن إضافييْن أحدهما صوفيّ تنِمُّ عنه سبحتُه الصغيرة الملازمة المُلامسة خفيةً لملابسه الداخلية و الثاني سياسيي يعبر عنه عفويا خلال أحاديثه الأخوية و من خلال كتاباته الدورية في بعض الصحف السيارة و عبر وسائط التواصل الإجتماعي..
أما التوجه الصوفي فما هو بمستغرب على من ولد و شبَّ و شاب في وسط مثل وسطه الإجتماعي أكسبه فطرة صقلتها صحبته شيخا ربانيا يُنهضه حاله و يدله على الله مقاله ومقام طوال السنين إلى جوار إمام المرسلين و قائد الغر المحجلين.
و أما التوجُّه السياسي فهو نتيجة حتمية لممارسة العمل الصحفي خاصة في القنوات الدولية .و لجريدة الشعب في تحديد مسارنا الصحفيِّ المشترك دور حاسم يرجع الفضل فيه إلى مُكتَتِبنا أصلا فقيدِ الصحافة مؤخرا المرحوم محمدْ يحظيه ولد العاقب أول مدير للشركة الوطنية للصحافة ابَّان إنشائها سنة 1975 إلى جوار أختها الوكالة الموريتانية للأنباء بمبادرة من وزير الثقافة و الإعلام آنذاك السيد أحمد ولد سيدي بابَ.
و كأي مثقف موريتاني لا يعدم صاحبنا حظا من الأدب الحسّانيّ الرفيع من حيث الرواية و الدراية،و بالمناسبة فهو عندي من أشياخي في هذا الفن إذ منه اكتسبتُ لأول مرة تلك القاعدة الذهبية التي يرويها عن صديقنا المشترك محمد ول هدار و التي مَفادُها أن أول ما ينتُجه المنتج من نصه سواءً أكان طلعة أو كافا هو ""المَكِعْده" أو "التَافِلْويتَيْن" الأخيرتيْن منه !و كمصداق لذلك سألت مرةً الأديب العملاق ٱمَّدْ ولد اعلمبطالبْ عن أول ما ابتدأ به رائعته البديعة " يا الناس ألِّ مانَّ ساميين" فأجابني بداهةً بأنه الشطران الأخيران منها و بالمناسبة فعدّ أشطارها 84!
و سمعت مؤخرا الخبير المختص في هذا الشأن د.احظانه يقول إن هذه القاعدة المعتمدة في الجنوب ليست محلَّ إجماع بين سائرِ المدارس الأدبية الموريتانية .التزمتُ هذه القاعدة التزاما منذ زودني بها ذلك الصديق منتصف الثمانينات في الرباط و أنا و إياه جزء لا يتجزأُ من مَجْمَعٍ جله من الأدباء يخصص الطلبة منه في ضيافة المحاسب القائم بالأعمال الحسن ولد سيد ابراهيم في كل فصل من السنة أكثر ممّا يقضون داخل الفصول الدراسية.
رحم الله بابَ ولد أبو مدين و عبد الله ولد لمسيد فقد كانا دون منازع من أكبر المنعشين في ذلك المنتدى لا يزاحمهم فيه إلا ذلك التلميذ الثانوي الموهوب المقيم في القسم الداخلي من ثانوية "العرائش" و الذي يطل علينا في عطلة نهاية كل أسبوع. إنه الإمام الداعية فيما بعد الشيخ محمد الأمين ولد الشاه!
نكصنا مرة عن الأدب و احتدم بيننا النقاش حول علاقة العلم و العمل به أي علاقة ما نتعلَّمه حاليا من علم تكتنفه المناهج الدراسية بما سنعمَل به لاحقا في مُعترك الحياة الوظيفية ، و يمكننا اليوم أن نجزم بأن لنا من الشيخ الشاه دليلا على صدق القائلين بأن لا علاقة مُطلقا بين الإثنين.
لا زلت أحتفظ في زوايا مختلفة من حافظتي الفاترة بنصوص مختلفةٍ من إنتاج تلك المرحلة السعيدة. و من طريف ما سمعت عند الحسن ولد سيد ابراهيم أن والده محمدن رحمه الله دخل عليه ليلة في مجلس "هول" تنعشه عيش منت محمد اعلِ في منزلها في لكصر فوجدها تكرر لازمة شور معلوم فلما تعرف عليه أي على ابنه الحسن و كان شابا يافعا آنذاك تراجع حياءً بالسرعة التي أوصل بها إلى المطربة كَافًا في شورها ذلك يقول فيه:
شيبانِ عِدْتْ أُلاَنِ كَادْ == نحظرْ بِيَ لعيالْ الْ فَمْ
أُ حامد ذاكْ ٱلْ ملانَ زادْ == ما دفع لله أعظَمْ!
و من تلك النصوص قول عبد الله ولد لمسيد رحمة الله عليه يخاطب الحسن حفظه الله و رعاه:
كنتْ آنَ و "الحسن" لَثنينْ == مِتَّفقين أعلَ شِ لثنينْ
ذَوْكْ الْ جَاوْ أُرَاهْ اسبوعيْن == يَغيْر اخْلِكْ فيه التاخيرْ
و ألاَّ حدْ إخلِّيه إليْن == يعطِ فيه الله التيْسير!
و الإثنين بالمناسبة هو يوم الرحلة الأسبوعية القادمة من انواكشوط ،و عادةً ما يذهب الحسن إلى هناك و قد يُعرج إلى مدينة الدار البيضاء حيث المحلات التجارية الكبيرة التي تعج بالملابس الشتوية و الصيفية الفاخرة و التي تعوّد القائم بالأعمال أن يجلب منها هدايا غيرَ ممنونة لبعض رعيته من الطلاب المقرّبين على وجه التناوب.
و قولُه له كذلك من مساجلة أخرى:
تاهمنِ هاكْ ابْتِحْرِيكَ == و الّ ذاك أعليه امساسِ
ما تعرف في نفسك == يدلُّكَ على الناسِ!
و من طريف ما حدثني به عبد لله رحمه الله أنه حضر مرة في "عيون" الساقية الحمراء مجلس طرب يُنعشه الفنان سيدي ولد دندنِّي فطرب لأدائه البديع و ارتجل له كَافه المشهور:
يَسيدي فِمْنَينْ جَيْتُ == لِعْيُونْ أَلِّ هَوْنْ
يِنْزَادُ و إلى امْشَيْتُ == يِنْتَكْصُ لِعْيُونْ
قال: و ما إن ردد المطرب بنشوة ذلك الكاف حتى انبرى من الجماعة من أوله على أنه تنقيص من قدر المدينة دون أن تترك الإشارة " هون" أي مجال لاحتمال اللبس.فاضطُررتُ للإعتذار.
و ممَّا علق بذاكرتي كذلك هذه المساجلة الطريفة في ذات الحقبة بين عبد الله ولد لمسيد رحمه الله و محمد ولد هدار حفظه الله و رعاه.حدثني عبد الله قال:كنت أستعد للعودة إلى الرباط في نهاية العطلة الصيفية و صدفة التقيت بأخي محمدْ في مناسبة اجتماعية فكانت المساجلة التالية:
قال عبد الله:
حَدْ ٱمْن الناس اليوم أَلِّ == لوَّدْ دَايِرْ كَانُ يَلْكَاكْ
ما يلكَاك أُ حَدْ امَّلِّ == لَوَّدْ و الكَاكْ " أَلَّ نَلْكَاكْ"
فأجبه محمدْ قائلا:
واسِ بالشَّورْ ألاَّ بالشَّورْ == أَرَاعِينِ ذَ التَّوْ ٱحذاكْ
ٱدَّوّرْ تلكَانِ و ادَّوْرْ== تَبْرَ و إدَوْرْ إفِشِّكْ ذَاكْ
و سمعتُ منه مرة كَافه البديع المشهور الذي أنشأه في العراق و أنشده بجسارة في أوج عزِّ بلاد الرافديْن إذ وقف ذات أصيل و هو التلميذ الشنقيطي المغترب على مرأًى و مسمعٍ من نهريْ دجلة و الفرات و توعَّد النهريْن متحديا فقال:
افْعَيْنِكْ وكتِنْ فَاتْ ٱلْ فَاتْ == لاَ نسَّيْتِينِ يَدَجْلَ
فالكَبْلَ و افْعَيْنْ الْفُلاَتْ == إلى نسَّانِ فالكَِبْلَ
و علق قائلا: للأمانة أعترف بأن هذه الصيغة التي آل إليها هذا النص هي أجمل من نسخته الأصلية التي هي:
افْعَيْنِكْ وكتِنْ فَاتْ ٱلْ فَاتْ == باطْ ٱتنسينِ يَدَجْلَ
فالكَبْلَ و افْعَيْنْ الْفُلاَتْ == إلى نسَّانِ فالكَِبْلَ
و في تلك الأثناء جاء أول نص حسّاني أُنتِجه ذي بال فعرضتُه " أي شيَّخْتُهُ" على المرحوم عبد الله ولد لمسيد فقال لي:عليك أن "تُدَاخِلَهُ" ما أمكنك ذلك..و تلك سمة مميِّزة في أدب تلك المدرسة الساحلية التي تتخذ من أدب أهل هدَّار قدوة لها..قلت له:هلاَّ ساعدتني في ذلك؟قال ملحا بل حاول أنت!
و صرفت من جهدي و وقتي قسطًا امتثلتُ فيه أمره ثم عرضتُ عليه النتيجة فقال لي مجاملا و مشجعا:أما أنا فلا أقدر على أن آتي بمثل هذا! و جاءت الطلعة في صيغتها النهائية على النحو التالي:
كَلْبِ عن ذكْر اللَّ غفلان == و ٱمن أمراض القلوب ٱملانْ
إبان أُ نفْسِ للشيْطان == منقادَ و امَّلِّ لَسْرارْ
محجوبَ من عدل السبحان == عن روحِ و اطلبتْ القهّارْ
ربِّ يعملْ كَلْب يليانْ == للذكْرْ أُ يِعْمِرْ مِنْ لَنْوَارْ
أُ تِبْعِدْ نفسِ يمْ العِصيانْ == أُ تصْفَ روحِ زاد أُ تطهار
أُ حامد للَّ مومن بلِّ == جَ بيه الرسول المختار
من لخبار أُ ذيك ٱمَّلِّ == هي هي صحِّتْ لخبارْ
و لعل أول نص فصيح كذلك أنتجه هو ذلك الذي قلته في ذات الفترة بطلب من عبد الله يستعطف به الأستاذ "حسن" مدير الحي الجامعي عساه يمنحه حق السكن الجامعي و يبدو أن حسن هذا كان دون حَسَنِنَا الموريطاني في معاملته مع الطلاب الغرباء..أنشأت البيتيْن التاليين:
يا راكبا بلِّغنْ عني المدير "حَسَنْ" == سلامَ مغتربٍ يرجو وجود سكنْ
و أشهد الله و الأقوامَ قاطبةً == ما إن رأيتُ فتًى في الحي مثل حسن!
كان مستوى البيتين بالقدر الذي يخول مُسديَهما لا غرفةً سكنية مُنفردةً و إنما سريرا متواضعًا في غرفة في الحي الثانوي سويسي 2!
و هنالك أقام الطالب و تعثرت صحته فحظي بعناية طيبة من أحد جيرانه الطلاب في الحي من بني جلدته.و قد تركت تلك المعاملة الحسنة في نفسه أثرا قويا و هو الأديب مرهف الحس .
ففي إحدى الليالى و بينما كنا نأخذ أهبتنا للنوم في تلك الغرفة المتهالكة من منزل "ابَّا الحاج" في "دوار جافللَّ" من حي " يعقوب المنصور" بعد جهد جَهيد لإقناع ربّ المنزل الملحِّ على تسديدنا الفوري إيجار الشهرين المتأخرين بإمهالنا حتى صباح الغد لأنّ لنا على ذلك الأجل وعدا من قائم بأعمال لا يُخلف وعده و لا يَمنع رفده و لا يُظلم أحدٌ عنده ! .بينما نحن كذلك إذ دخل علينا شريكنا الرابع في الغرفة القادم من حي "آكدال" على متن السيارة الأميرية الفارهة إذ انفرد عنا ليلتئذ بما كنا نشترك فيه عادة من حضور مأدبة الأمير الجواد سيدي ولد أحمد ولد الديْدْ تغمده الله برحمته الواسعة.قال لنا الطالب محمدْ ولد يعقوب ولد أبو مدين أتيتكم بتحفة هي طلعة جديدة من إنتاج عبد الله ولد لمسيد يمدح بها عبد الله ولد محمدْ ولد أبو مدين تطفح بعاطفة جيّاشة تعبر عن مدى تأثره بمعاملته له إبّان وعكته الصحية الأخيرة.انتشرت الطلعة بين صفوف الطلاب كما تنتشر النار في الهشيم و هي هذه:
عبد الله و اتعلمُ == حالتْ شِ زَيْنْ أُ سَلْمُ
بيهْ أُ ذَ بيه اتكلْمُ == عِلْمْ أُ حِلْمْ أُ رزان
خَالِطْهُمْ لُ بالكِلْ مُ === لان كرم ملان
بِنُّ نجّاه أُ سلْمُ == باتِّباعْ الديانَ
مخلاَّهْ أَلِّ ولْ مُ == حَمَّلْ لَبُو مَدْيانَ
و في الصباح الموالي حرصنا على أن نستيقظ مبكرين حتى لا تفوتنا الجلسة الأدبية الصباحية عند منزل أهل سيدْ ابراهيم العامر في حي السويسي المحروس .. غادرنا غرفتنا على وقع وعد المُؤجر و وعيده و لما وصلنا وجهتنا قوبلنا بما اعتدناه من صنوف الضيافة و الإكرام و لكننا صادفنا مشهدا لا يخلو من طرافة..
في الليلة السابقة عنَّ لسعادة القائم بالأعمال أمرٌ مستعجلٌ وهْنًا من الليل ربما يكون يتعلق بتحضيرات عيد الأضحى المبارك الوشيك.و صادف ذلك أن كانت سيارته الدبلوماسية متعطلة فاضطُر إلى أن يستعير من جاره المغربي سيارة يستخدمها لذلك الغرض المُلح.فاستجاب الجار طواعية لذلك الطلب النادر من جاره الدبلوماسي ذي الكرم المعهود.و لكنه فضَّل أن يؤثره بسيارة زوجته دون علمها لأنها مَرْكَبٌ أفخر و أوفر وَقودا..امتطى الحسن تلك السيارة ذائعة الإسم صغيرة الجسم حسنة الوسم ..و ما لبثتْ أن بلغته وجهته بأمان فقضى أربَه و حمد مُنقلبَه.و حتى لا يوقظ جيرانه في تلك الساعة المتأخرة جدا من الليل و حرصا منه على سلامة السيارة بادر فأدخلها في موقف سيارته الدبلوماسية المتغيِّبة في رحلة مفاجئة للإصلاح ثم آوى إلى فراشه فنام قريرَ العين.
و ما إن أسفر الصبح حتى هرع الحسن من فراشه و أسرع إلى الكَراج ليرد الأمانة إلى أهلها فما هاله إلاَّ تقلُّب حالها بعد أن تكسَّر ما بها من زجاج و تحطمت سائر أضوائها الرئيسية و الثانوية و تغيَّرت ملامح الأبواب و نال طلاؤها الذهبيُّ حظه من من ذلك العبث العارم الذي أودى بتلك التحفة السيارة في وقت المستغفرين بالأسحار..
وقف الحسن ولد سيد ابراهيم مشدوها أمام هذا المشهد المُفاجيء و لكنه كاد ينفجر ضحكا عندما تراءى له من وراء السيارة كبشين عظيميْن سمينيْن أقرنيْن أملحين يطآن في سواد ويبركان في سواد وينظران في سواد لا يزالان يواصلان فتكهما بما في متناولهما من أجزاء السيارة !
إنها الهدية الملكية السنية التي يقدمها الملك الحسن الثاني رحمه الله للديلومسيين المسلمين كافةً كل سنة بمناسبة عيد الأضحى المبارك!
و كعادة الجنود المكلَّفين بتوصيل هذه الهدية المباركة في الصباح الباكر، حرِصوا على أن لا يجعلوها إلا في مكان آمن فما اطمأنتْ نفوسهم إلاَّ إلى ذلك الفضاء الرحب الفارغ من الكراج و إلى جوار تلك السيارة الصغيرة الوديعة التي لم تحتلَّ من مساحته الكبيرة سوى حيِّزٍ يسير. و ما إن ولى الجنود و صحَّتْ الخلوة بين السيارة و الرفيقين حتى انهالا عليها باللثم و النطح فكان ما كان مما ذكرت.
كان الحسن حفظه الله في هذه أيضا ديبلوماسيا محنكا و جوادا لا يُشقُّ له غُبار..لم تستيقظ الزوجة المالكة و هي في وضعية صحية خاصة إلا على بدء تنفيذ بنود اتفاق يكاد يكون أُبْرِمَ بليل مع زوجها المُتعدِّي تعوَّض لها بموجبه سيارة جديدة هذه المرة تحمل ذات المواصفات !
و لعل مما ساهم في سهولة الإتفاق نية مشتركة للتجاوز بسرعة عن خطأ محتمل يرتكبه كل ما يمتُّ بصلة إلى الملك طيب الله ثراه من إنسان أو حيوان!
لم تغرُب شمس ذلك اليوم إلاَّ و كان سعادة القائم بالأعمال قد وفَى بسائر التزاماته بما فيها تلك المتعلقة بتسديد بعض الطلاب للمسحقات المتأخرة من قيمة الإيجار..
إنها حقبة جميلة من الحياة و لي عليها كذلك من الدلائل المادية هذه الصورة المرفقة التي عثرت عليها صدفة في وثائقي الخاصة.
ليته ساهم بطموحه الواقعي في استعادة مجدنا من خلال هذا الفضاء فكان لنا به صلاح الدين كما كان " بوتين" قيصر الذي استعادت به روسيا مجدها الضائع.
ليته بلغته الحازمة الهادئة ساهم معنا في نزع فتيل الهجمة الإلحادية الشرسة التي تجتاح بلادنا حاليا كما ذبَّ بوتن بحزم و هدوء عن مقر الاستخبارات الروسية (كي – جي – بي) في مدينة « دريسد » الألمانية ليلة سقوط جدار برلين، في 9 نوفمبر 1989م.
ليته ساهم في إرساء قواعد الأخوة الإسلامية الحقة بين المسلمين من خلال هذا الفضاء حتى تستعيد الأمة الإسلامية سابق ألقها بين الأمم تماما كما ساهم "بوتين" في إرساء قواعد حكمه، و"بناء روسيا من الداخل" و بلغ به الطموح إلى أن يحلم بأن يستعيد لروسيا "مكانتها الإقليمية والدولية".
نعم ليت صديقي العائد فعل كلَّ هذا و زيادة.
إن الأخ الأستاذ آبَّ ولد محمدْ ولد المختار هو من كبار المثقفين الموريتانيين ذوي اللغات المتعددة .يكتب بإتقان باللغتين العربية و الفرنسية و قال لي مرة تواضُعا إنه لا يقبل أن تُشكّل اللغة الإنكيزية عرقلة تَعُوقه عن أداء العمل و هو إذ ذاك من كبار الصحفيين في التلفزة السعودية " الإخبارية " في الرياض حيث قضى عقدا من الزمن قبل أن يرتحل عنها إلى الدوحة فيحلَّ بها ضيفا على قناة حكومية مماثلة.
قال لي د.هيبتن ولد سيدي هيبه مرة إنه إبّان رئاسته لهيئة التراث ما صادف دراسةً أجود من حيث الأسلوب و المضمون من تلك الإستراتيجية الإعلامية التي اشترك في إنجازها للمشروع باللغة الفرنسية الخبيران الإعلاميان:آبَّه ولد امحمد ومحمد سالم ولد ألُمَّا.
عهدي بصاحبنا يحمل ولعا بالأدب الفرنسي دائبا على متابعة ثمرات ما تُنتجه منه المطابع الغربية ..
خلال اتصالاتنا النادرة في عُطَلِه السنوية لمستُ لديه توجُّهيْن إضافييْن أحدهما صوفيّ تنِمُّ عنه سبحتُه الصغيرة الملازمة المُلامسة خفيةً لملابسه الداخلية و الثاني سياسيي يعبر عنه عفويا خلال أحاديثه الأخوية و من خلال كتاباته الدورية في بعض الصحف السيارة و عبر وسائط التواصل الإجتماعي..
أما التوجه الصوفي فما هو بمستغرب على من ولد و شبَّ و شاب في وسط مثل وسطه الإجتماعي أكسبه فطرة صقلتها صحبته شيخا ربانيا يُنهضه حاله و يدله على الله مقاله ومقام طوال السنين إلى جوار إمام المرسلين و قائد الغر المحجلين.
و أما التوجُّه السياسي فهو نتيجة حتمية لممارسة العمل الصحفي خاصة في القنوات الدولية .و لجريدة الشعب في تحديد مسارنا الصحفيِّ المشترك دور حاسم يرجع الفضل فيه إلى مُكتَتِبنا أصلا فقيدِ الصحافة مؤخرا المرحوم محمدْ يحظيه ولد العاقب أول مدير للشركة الوطنية للصحافة ابَّان إنشائها سنة 1975 إلى جوار أختها الوكالة الموريتانية للأنباء بمبادرة من وزير الثقافة و الإعلام آنذاك السيد أحمد ولد سيدي بابَ.
و كأي مثقف موريتاني لا يعدم صاحبنا حظا من الأدب الحسّانيّ الرفيع من حيث الرواية و الدراية،و بالمناسبة فهو عندي من أشياخي في هذا الفن إذ منه اكتسبتُ لأول مرة تلك القاعدة الذهبية التي يرويها عن صديقنا المشترك محمد ول هدار و التي مَفادُها أن أول ما ينتُجه المنتج من نصه سواءً أكان طلعة أو كافا هو ""المَكِعْده" أو "التَافِلْويتَيْن" الأخيرتيْن منه !و كمصداق لذلك سألت مرةً الأديب العملاق ٱمَّدْ ولد اعلمبطالبْ عن أول ما ابتدأ به رائعته البديعة " يا الناس ألِّ مانَّ ساميين" فأجابني بداهةً بأنه الشطران الأخيران منها و بالمناسبة فعدّ أشطارها 84!
و سمعت مؤخرا الخبير المختص في هذا الشأن د.احظانه يقول إن هذه القاعدة المعتمدة في الجنوب ليست محلَّ إجماع بين سائرِ المدارس الأدبية الموريتانية .التزمتُ هذه القاعدة التزاما منذ زودني بها ذلك الصديق منتصف الثمانينات في الرباط و أنا و إياه جزء لا يتجزأُ من مَجْمَعٍ جله من الأدباء يخصص الطلبة منه في ضيافة المحاسب القائم بالأعمال الحسن ولد سيد ابراهيم في كل فصل من السنة أكثر ممّا يقضون داخل الفصول الدراسية.
رحم الله بابَ ولد أبو مدين و عبد الله ولد لمسيد فقد كانا دون منازع من أكبر المنعشين في ذلك المنتدى لا يزاحمهم فيه إلا ذلك التلميذ الثانوي الموهوب المقيم في القسم الداخلي من ثانوية "العرائش" و الذي يطل علينا في عطلة نهاية كل أسبوع. إنه الإمام الداعية فيما بعد الشيخ محمد الأمين ولد الشاه!
نكصنا مرة عن الأدب و احتدم بيننا النقاش حول علاقة العلم و العمل به أي علاقة ما نتعلَّمه حاليا من علم تكتنفه المناهج الدراسية بما سنعمَل به لاحقا في مُعترك الحياة الوظيفية ، و يمكننا اليوم أن نجزم بأن لنا من الشيخ الشاه دليلا على صدق القائلين بأن لا علاقة مُطلقا بين الإثنين.
لا زلت أحتفظ في زوايا مختلفة من حافظتي الفاترة بنصوص مختلفةٍ من إنتاج تلك المرحلة السعيدة. و من طريف ما سمعت عند الحسن ولد سيد ابراهيم أن والده محمدن رحمه الله دخل عليه ليلة في مجلس "هول" تنعشه عيش منت محمد اعلِ في منزلها في لكصر فوجدها تكرر لازمة شور معلوم فلما تعرف عليه أي على ابنه الحسن و كان شابا يافعا آنذاك تراجع حياءً بالسرعة التي أوصل بها إلى المطربة كَافًا في شورها ذلك يقول فيه:
شيبانِ عِدْتْ أُلاَنِ كَادْ == نحظرْ بِيَ لعيالْ الْ فَمْ
أُ حامد ذاكْ ٱلْ ملانَ زادْ == ما دفع لله أعظَمْ!
و من تلك النصوص قول عبد الله ولد لمسيد رحمة الله عليه يخاطب الحسن حفظه الله و رعاه:
كنتْ آنَ و "الحسن" لَثنينْ == مِتَّفقين أعلَ شِ لثنينْ
ذَوْكْ الْ جَاوْ أُرَاهْ اسبوعيْن == يَغيْر اخْلِكْ فيه التاخيرْ
و ألاَّ حدْ إخلِّيه إليْن == يعطِ فيه الله التيْسير!
و الإثنين بالمناسبة هو يوم الرحلة الأسبوعية القادمة من انواكشوط ،و عادةً ما يذهب الحسن إلى هناك و قد يُعرج إلى مدينة الدار البيضاء حيث المحلات التجارية الكبيرة التي تعج بالملابس الشتوية و الصيفية الفاخرة و التي تعوّد القائم بالأعمال أن يجلب منها هدايا غيرَ ممنونة لبعض رعيته من الطلاب المقرّبين على وجه التناوب.
و قولُه له كذلك من مساجلة أخرى:
تاهمنِ هاكْ ابْتِحْرِيكَ == و الّ ذاك أعليه امساسِ
ما تعرف في نفسك == يدلُّكَ على الناسِ!
و من طريف ما حدثني به عبد لله رحمه الله أنه حضر مرة في "عيون" الساقية الحمراء مجلس طرب يُنعشه الفنان سيدي ولد دندنِّي فطرب لأدائه البديع و ارتجل له كَافه المشهور:
يَسيدي فِمْنَينْ جَيْتُ == لِعْيُونْ أَلِّ هَوْنْ
يِنْزَادُ و إلى امْشَيْتُ == يِنْتَكْصُ لِعْيُونْ
قال: و ما إن ردد المطرب بنشوة ذلك الكاف حتى انبرى من الجماعة من أوله على أنه تنقيص من قدر المدينة دون أن تترك الإشارة " هون" أي مجال لاحتمال اللبس.فاضطُررتُ للإعتذار.
و ممَّا علق بذاكرتي كذلك هذه المساجلة الطريفة في ذات الحقبة بين عبد الله ولد لمسيد رحمه الله و محمد ولد هدار حفظه الله و رعاه.حدثني عبد الله قال:كنت أستعد للعودة إلى الرباط في نهاية العطلة الصيفية و صدفة التقيت بأخي محمدْ في مناسبة اجتماعية فكانت المساجلة التالية:
قال عبد الله:
حَدْ ٱمْن الناس اليوم أَلِّ == لوَّدْ دَايِرْ كَانُ يَلْكَاكْ
ما يلكَاك أُ حَدْ امَّلِّ == لَوَّدْ و الكَاكْ " أَلَّ نَلْكَاكْ"
فأجبه محمدْ قائلا:
واسِ بالشَّورْ ألاَّ بالشَّورْ == أَرَاعِينِ ذَ التَّوْ ٱحذاكْ
ٱدَّوّرْ تلكَانِ و ادَّوْرْ== تَبْرَ و إدَوْرْ إفِشِّكْ ذَاكْ
و سمعتُ منه مرة كَافه البديع المشهور الذي أنشأه في العراق و أنشده بجسارة في أوج عزِّ بلاد الرافديْن إذ وقف ذات أصيل و هو التلميذ الشنقيطي المغترب على مرأًى و مسمعٍ من نهريْ دجلة و الفرات و توعَّد النهريْن متحديا فقال:
افْعَيْنِكْ وكتِنْ فَاتْ ٱلْ فَاتْ == لاَ نسَّيْتِينِ يَدَجْلَ
فالكَبْلَ و افْعَيْنْ الْفُلاَتْ == إلى نسَّانِ فالكَِبْلَ
و علق قائلا: للأمانة أعترف بأن هذه الصيغة التي آل إليها هذا النص هي أجمل من نسخته الأصلية التي هي:
افْعَيْنِكْ وكتِنْ فَاتْ ٱلْ فَاتْ == باطْ ٱتنسينِ يَدَجْلَ
فالكَبْلَ و افْعَيْنْ الْفُلاَتْ == إلى نسَّانِ فالكَِبْلَ
و في تلك الأثناء جاء أول نص حسّاني أُنتِجه ذي بال فعرضتُه " أي شيَّخْتُهُ" على المرحوم عبد الله ولد لمسيد فقال لي:عليك أن "تُدَاخِلَهُ" ما أمكنك ذلك..و تلك سمة مميِّزة في أدب تلك المدرسة الساحلية التي تتخذ من أدب أهل هدَّار قدوة لها..قلت له:هلاَّ ساعدتني في ذلك؟قال ملحا بل حاول أنت!
و صرفت من جهدي و وقتي قسطًا امتثلتُ فيه أمره ثم عرضتُ عليه النتيجة فقال لي مجاملا و مشجعا:أما أنا فلا أقدر على أن آتي بمثل هذا! و جاءت الطلعة في صيغتها النهائية على النحو التالي:
كَلْبِ عن ذكْر اللَّ غفلان == و ٱمن أمراض القلوب ٱملانْ
إبان أُ نفْسِ للشيْطان == منقادَ و امَّلِّ لَسْرارْ
محجوبَ من عدل السبحان == عن روحِ و اطلبتْ القهّارْ
ربِّ يعملْ كَلْب يليانْ == للذكْرْ أُ يِعْمِرْ مِنْ لَنْوَارْ
أُ تِبْعِدْ نفسِ يمْ العِصيانْ == أُ تصْفَ روحِ زاد أُ تطهار
أُ حامد للَّ مومن بلِّ == جَ بيه الرسول المختار
من لخبار أُ ذيك ٱمَّلِّ == هي هي صحِّتْ لخبارْ
و لعل أول نص فصيح كذلك أنتجه هو ذلك الذي قلته في ذات الفترة بطلب من عبد الله يستعطف به الأستاذ "حسن" مدير الحي الجامعي عساه يمنحه حق السكن الجامعي و يبدو أن حسن هذا كان دون حَسَنِنَا الموريطاني في معاملته مع الطلاب الغرباء..أنشأت البيتيْن التاليين:
يا راكبا بلِّغنْ عني المدير "حَسَنْ" == سلامَ مغتربٍ يرجو وجود سكنْ
و أشهد الله و الأقوامَ قاطبةً == ما إن رأيتُ فتًى في الحي مثل حسن!
كان مستوى البيتين بالقدر الذي يخول مُسديَهما لا غرفةً سكنية مُنفردةً و إنما سريرا متواضعًا في غرفة في الحي الثانوي سويسي 2!
و هنالك أقام الطالب و تعثرت صحته فحظي بعناية طيبة من أحد جيرانه الطلاب في الحي من بني جلدته.و قد تركت تلك المعاملة الحسنة في نفسه أثرا قويا و هو الأديب مرهف الحس .
ففي إحدى الليالى و بينما كنا نأخذ أهبتنا للنوم في تلك الغرفة المتهالكة من منزل "ابَّا الحاج" في "دوار جافللَّ" من حي " يعقوب المنصور" بعد جهد جَهيد لإقناع ربّ المنزل الملحِّ على تسديدنا الفوري إيجار الشهرين المتأخرين بإمهالنا حتى صباح الغد لأنّ لنا على ذلك الأجل وعدا من قائم بأعمال لا يُخلف وعده و لا يَمنع رفده و لا يُظلم أحدٌ عنده ! .بينما نحن كذلك إذ دخل علينا شريكنا الرابع في الغرفة القادم من حي "آكدال" على متن السيارة الأميرية الفارهة إذ انفرد عنا ليلتئذ بما كنا نشترك فيه عادة من حضور مأدبة الأمير الجواد سيدي ولد أحمد ولد الديْدْ تغمده الله برحمته الواسعة.قال لنا الطالب محمدْ ولد يعقوب ولد أبو مدين أتيتكم بتحفة هي طلعة جديدة من إنتاج عبد الله ولد لمسيد يمدح بها عبد الله ولد محمدْ ولد أبو مدين تطفح بعاطفة جيّاشة تعبر عن مدى تأثره بمعاملته له إبّان وعكته الصحية الأخيرة.انتشرت الطلعة بين صفوف الطلاب كما تنتشر النار في الهشيم و هي هذه:
عبد الله و اتعلمُ == حالتْ شِ زَيْنْ أُ سَلْمُ
بيهْ أُ ذَ بيه اتكلْمُ == عِلْمْ أُ حِلْمْ أُ رزان
خَالِطْهُمْ لُ بالكِلْ مُ === لان كرم ملان
بِنُّ نجّاه أُ سلْمُ == باتِّباعْ الديانَ
مخلاَّهْ أَلِّ ولْ مُ == حَمَّلْ لَبُو مَدْيانَ
و في الصباح الموالي حرصنا على أن نستيقظ مبكرين حتى لا تفوتنا الجلسة الأدبية الصباحية عند منزل أهل سيدْ ابراهيم العامر في حي السويسي المحروس .. غادرنا غرفتنا على وقع وعد المُؤجر و وعيده و لما وصلنا وجهتنا قوبلنا بما اعتدناه من صنوف الضيافة و الإكرام و لكننا صادفنا مشهدا لا يخلو من طرافة..
في الليلة السابقة عنَّ لسعادة القائم بالأعمال أمرٌ مستعجلٌ وهْنًا من الليل ربما يكون يتعلق بتحضيرات عيد الأضحى المبارك الوشيك.و صادف ذلك أن كانت سيارته الدبلوماسية متعطلة فاضطُر إلى أن يستعير من جاره المغربي سيارة يستخدمها لذلك الغرض المُلح.فاستجاب الجار طواعية لذلك الطلب النادر من جاره الدبلوماسي ذي الكرم المعهود.و لكنه فضَّل أن يؤثره بسيارة زوجته دون علمها لأنها مَرْكَبٌ أفخر و أوفر وَقودا..امتطى الحسن تلك السيارة ذائعة الإسم صغيرة الجسم حسنة الوسم ..و ما لبثتْ أن بلغته وجهته بأمان فقضى أربَه و حمد مُنقلبَه.و حتى لا يوقظ جيرانه في تلك الساعة المتأخرة جدا من الليل و حرصا منه على سلامة السيارة بادر فأدخلها في موقف سيارته الدبلوماسية المتغيِّبة في رحلة مفاجئة للإصلاح ثم آوى إلى فراشه فنام قريرَ العين.
و ما إن أسفر الصبح حتى هرع الحسن من فراشه و أسرع إلى الكَراج ليرد الأمانة إلى أهلها فما هاله إلاَّ تقلُّب حالها بعد أن تكسَّر ما بها من زجاج و تحطمت سائر أضوائها الرئيسية و الثانوية و تغيَّرت ملامح الأبواب و نال طلاؤها الذهبيُّ حظه من من ذلك العبث العارم الذي أودى بتلك التحفة السيارة في وقت المستغفرين بالأسحار..
وقف الحسن ولد سيد ابراهيم مشدوها أمام هذا المشهد المُفاجيء و لكنه كاد ينفجر ضحكا عندما تراءى له من وراء السيارة كبشين عظيميْن سمينيْن أقرنيْن أملحين يطآن في سواد ويبركان في سواد وينظران في سواد لا يزالان يواصلان فتكهما بما في متناولهما من أجزاء السيارة !
إنها الهدية الملكية السنية التي يقدمها الملك الحسن الثاني رحمه الله للديلومسيين المسلمين كافةً كل سنة بمناسبة عيد الأضحى المبارك!
و كعادة الجنود المكلَّفين بتوصيل هذه الهدية المباركة في الصباح الباكر، حرِصوا على أن لا يجعلوها إلا في مكان آمن فما اطمأنتْ نفوسهم إلاَّ إلى ذلك الفضاء الرحب الفارغ من الكراج و إلى جوار تلك السيارة الصغيرة الوديعة التي لم تحتلَّ من مساحته الكبيرة سوى حيِّزٍ يسير. و ما إن ولى الجنود و صحَّتْ الخلوة بين السيارة و الرفيقين حتى انهالا عليها باللثم و النطح فكان ما كان مما ذكرت.
كان الحسن حفظه الله في هذه أيضا ديبلوماسيا محنكا و جوادا لا يُشقُّ له غُبار..لم تستيقظ الزوجة المالكة و هي في وضعية صحية خاصة إلا على بدء تنفيذ بنود اتفاق يكاد يكون أُبْرِمَ بليل مع زوجها المُتعدِّي تعوَّض لها بموجبه سيارة جديدة هذه المرة تحمل ذات المواصفات !
و لعل مما ساهم في سهولة الإتفاق نية مشتركة للتجاوز بسرعة عن خطأ محتمل يرتكبه كل ما يمتُّ بصلة إلى الملك طيب الله ثراه من إنسان أو حيوان!
لم تغرُب شمس ذلك اليوم إلاَّ و كان سعادة القائم بالأعمال قد وفَى بسائر التزاماته بما فيها تلك المتعلقة بتسديد بعض الطلاب للمسحقات المتأخرة من قيمة الإيجار..
إنها حقبة جميلة من الحياة و لي عليها كذلك من الدلائل المادية هذه الصورة المرفقة التي عثرت عليها صدفة في وثائقي الخاصة.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
Commentaires
Enregistrer un commentaire