ذكريات الأستاذ محمد محمود ولد وَدَّادِي عن الاستاذ أحمدو ولد احميد رحمه الله.

Mohamed Vall Hmoyid a ajouté 2 photos.
في الذكرى 27 لوفاة الوالد رحمه الله.. عودة إلى شهادة صادقة مع الأستاذ محمد محمود ولد وَدَّادِي
في مثل هذا اليوم 17 نوفمبر 1989 توفي الوالد أحمدو ولد احميد رحمه الله.
كان عمره آنذاك في حدود السبعين إذ أن تاريخ ميلاده لم يكن معروفا بالتحديد، كل ما في الأمر أنه أدرك يسيرا من عمر العلامة امحمد بن احمد يوره المتوفى في سنة 1921 م إذ كان معاصرا لحفيده محمدن ولد محمد باب ولد امحمد ولد احمد يوره السيِّدْ علمًا وكان يحتفي بهما بسجع محفوظ متداول كلما قدما إليه فيقول "مَرِحْبَ بِالسَّيِّدْ أُ وِلْ احْمَيِّدْ"
كان رحمه الله ذا ثقافة محظرية وعصرية واسعة
قضى الفقيد 15 سنة في المهجر بعضها في غينيا كوناكري حيث اتصل بالشيخ الشريف محمد عبد الله ولد بودادية المشتهر في تلك المنطقة بشريف سَكَلَه ( والد الخليفة الحالي الشيخ عبد المجيد و النائب محمد عالي شريف وباقي الاخوة) وتلقن على يديه ورد الطريقة التجانية ثم انتقل بعد ذلك إلى السودان حيث أقام في مدينة "طَوْكَرْ" ودرّس العلوم الإسلامية والعربية في معهد إسلامي هناك,
عاد إلى البلاد بعيد الاستقلال فعمل في حقل الإعلام مستهلا تجربته المهنية بالعمل في الإذاعة الوطنية حيث كان ينعش برامج ثقافية وتوجيهية ثم انتقل بعد ذلك إلى جريدة الشعب فعمل فيها من سنة 1968 إلى حين وفاته في التاريخ المذكوربعد أن تدرب في جريدة الأهرام في القاهرة لمدة سنتين كاملتيْن إلى جانب صحفيين بارزين من جيله منهم محمدن ولد حامدن و الشيخ ولد بَاهَ و بعض الفنيين..
كان صديقا حميما للعلامة كراي ولد أحمد يوره و قد صادف خبر وصوله إلى أرض الوطن أن كان الأستاذ كراي يدرس طلابه النحو فارتجل بيتين أورد فيهما بناءَ الضمير "نا" في حالاته الثلاث الرفع والنصب والجر فقال:
قد ملئنا بالبشر لما أتانا :: بعد طول البين المفاجي فتانا
فأتى صالحا لرفع ونصب ::ولجر كأن هذا الفتى "نا"
كان رحمه الله يشتهر بين الصحفيين بلقب " عميد الصحافة" ولذلك نظمت النقابة الوطنية للصحفيين الموريتانيين سنة 2014 حفلا تأبينيا كبيرا بمناسبة مرور ربع قرن على وفاته وقد شارك بعض رفاقه على الدرب في إنعاش ذلك الحفل من بينهم السفير محمد سعيد ولد همدي و الأستاذ أحمد محفوظ ولد أبات رحمهما الله والوزير والسفير السابق محمد محمود ولد ودادي والوزير السابق محمد يحظيه ولد ابريد الليل و السفير السابق يحظيه ولد سيد أحمد بالإضافة إلى كوكبة من المثقفين والصحفيين المعاصرين على رأسهم نقيب الصحافة أحمد سالم ولد المختار السالم
في تلك المناسبة ألقى الأستاذ محمد محمود ولد ودادي كلمة كانت تصويرا فاحصا للدور الرائد الذي لعبته الصحافة في مواكبة تطور الدولة والمجتمع في المراحل الأولى للتأسيس.
و تعميما للفائدة نعيد لكم نشر تلك الكلمة :
قبل إعلان الاستقلال بأشهر، وحتى السنة الثالثة بعده، توافد على نواكشوط عدد من أبناء موريتانيا المقيمين في الخارج، معظمهم من الجالية الموريتانية في المملكة العربية السعودية، والسودان، وبعض الإخوة من بيظان أزواد: طوارق وعرب.
كان القادمون من السعودية الأكثر عددا وتنوعا، وكان أولهم النعمه بن المجتبى نجل أحد أبرز أشياخ الصوفية، المقيم في الحجاز، وعين مستشارا في الرئاسة قبل الاستقلال بأشهر، أما الدفعة الأكبر فقد وصلت على حساب الحكومة الموريتانية، عن طريق أحد كبار المسؤولين، السفير محمد عبد الله بن الحسن، وأبرزهم أحد رجال الدين البارزين: أحمد بن المختار، ومنهم معلمون، وضابط برتبة ملازم، ومجموعة من الشباب.
وبما أن غالبيتهم من المستعربين، الذين لا يعرفون اللغة الفرنسية، فكانت مجالات استخدامهم مححدودة، فوجهوا إلى الجهات لإدارية التي بها استخدام للغة العربية، فثلاثة منهم للإذاعة: أحمدُ بن احميّد، خليفه حسن، محمد الأمين ول ماء العينين، وول عبد الملك، وآخر إلى سكرتارية الرئيس العربية، ثم الإعلام: أحمد محفوظ لبات، واثنان إلى التعليم: محمد محمود بن ياتي، وإسلمُ بن بيبّه قبل أن يبعث طالبا إلى تونس، والتحق واحد بالسلك الدبلوماسي هو محمد لقمان بن سيدي كأول قنصل في القاهرة، وكان قبل وصوله موظفا في إحدى وكالات الأمم المتحدة، وعمل اثنان في السفارات: أحمد بن المختار سابق الذكر بعدما مر بالإذاعة، ومولاي الزين بن شغالِ.
ومن أبرز من جاء من أزواد خي بابا شياخ ليلتحق بالإذاعة، أو تلتحق الإذاعة به.
رغم الحالة الصعبة التي لقيها هؤلاء عند وصولهم، إذ لم يكن بالإمكان توفير متطلبات إقامة وتوظيف، حيث لا إطار جاهزا لذلك؛ فالدولةُ في طور التشييد، والعاصمة ورشة عمل كبيرة لتشييد مكاتب الحكومة وسكن موظفيها، مع فوضى انتقال الوزارات ووثائقها، وحركة المواطنين القادمين من أنحاء البلاد. في حاضرة
لا توجد فيها فنادق ولا مطاعم ولا سيارات أجرة، حيث يتكس الضيوف في المنازل الخصوصية في "الَگْصر" الذي يسكنه أيضا موظفو انْدَرْ قبل انتهاء تشطيب المنازل المخصصة لهم.
أما مكاتب الوزراء والمديرين فهي ضيقة جدا، ومليئة بالأثاث والملفات المرحّلة من اندر بسيارات الشحن، والهمُّ الرئيسي للقادة تثبيت موطئ قدم للقادمين من اندر لأنهم وزراء ونواب ورؤساء مصالح، لهم الأسبقية.
ومصدر القرار رئيس الحكومة الذي تحول إلى رئيس دولة، بدوره لا يجد مكانا كافيا في مكتبه حتى لا ستقبال أكثر من أربعة أشخاص، وإن زادوا فسيبقون واقفين.
فيجد العائدون إلى الوطن بعد غيبة دامت عشرات السنين، أنفسهم وكأنهم بساحة تجمع للأحياء البدوية في مواسم الخريف على بواكر المراعي (العارظ) أو الصيف على المناهل، أو "حصرات" الإحصاء.
يضاف لما سبق الجو السياسي المشحون بالنقاش والجدل حول مستقبل الكيان الجديد. فالأحزابُ السياسية تتصارع حول نوع نظام المولود الجديد وهويته، ولمن سيتبع، هل إلى الشمال أو الجنوب، أو يبقى حيث هو؟.
وأحلام الوافدين من المشرق في طموحهم لبلاهم جعلتهم يعتقدون أنها تحققت أو جزءا منها. فموريتانيا – في مخيلتهم - لا بد أن تكون قد تغيرت خلال سنوات الاستعمار الطوال، على نمط بقية العالم وخاصة منه المشرق، أو على الأقل كالدول التي مروا بها، في الذهاب، كالسودان الفرنسي ونيجيريا أو المقيمين فيها كالسودان والحجاز وتركيا. ويرونها بلدا عربيا صرفا، لغته العربية، بعد أن ألغيت الفرنسية مع إعلان الاستقلال! وأنها لن تكون أقل في تطورها العمراني عن الدول الآسيوية التي كانت متخلفة آنذاك، كمليزيا وكوريا، ولا يمكن لمستواها العلمي والثقافي أن يكون أقل عن اليمن الشمالي المستقل. وأن عليها في مجال علاقاتها الدولية أن تكون عدوة للاستعمار والصهيونية، وتتبع الخط الثوري لجمال عبد الناصر، وتنتقم من فرنسا على احتلالها، وتعيد المهاجرين الذين شتتهم في ضفاف نهر النيل وفي الجزيرة العربية وتركيا؛ حيث القادمون هم أبناؤهم وأحفادهم.
هذا هو الجو الذي التحق فيه أحمدُ بن احميّد بالإذاعة سنة 1962، وتلك طموحاتُ أقرانه العائدين، ومن ثم فهو يحمل على الأقل جزءا منها. لكنه يجد إذاعة في مبنى صغير، قبل توسيعاته اللاحقة، كانت إدارتها قبل سنة فرنسية، ورئيس التحرير فرنسي، يفرض خط تحرير يقظ، لا يتحدث عن الثورة الجزائرية إلا كتمرد إرهابي، ويعادي حتى النخاع العروبة والإسلام وحركة التحرير الإفريقية، من كينيا (الماو ماو) حتى غانا، ومن الكامرون حتى جنوب إفريقيا.
وباختصار، الإذاعة هذه، خارجة للتو من التبعية العضوية لإذاعة فرنسا لما وراء البحار. وقسمُها العربي مؤلف من مذيعيْن اثنين، ومترجم إلى الحسانية، لها نشرة إخبارية في الزوال وأخرى في المساء، تتبع مباشرة النشرة الفرسية، وتكون أخبارهما متطابقة.
كان أحمدُ استثناء من المجموعة، فقد تغلب بسرعة على عواطفه الجياشة، وتحكم في خيبة أمله، حيث اندمج على الفور في القسم العربي، ووضع خبرته تحت تصرف الهيئة، وألغى فارق السن الذي يصل الأربعين سنة مع كاتب التحرير الذي يرأسه، ولم يناكف في موقعه ولا مؤهلاته ولا التجربة التي تؤهله هو لسكرتارية التحرير، حيث كان الرجلُ، وطنيا حتى النخاع، مستعدا للتضحية بما لديه في إقامة دولة وبناء وطن، وهو الذي علّمته الغربة أن الأوطان أسمى من الاعتبارات الشخصية، فهو متقدم في تفكيره على الكثيرين ممن يعايشونه.
أحمدُ هذا، عاش فترة فريدة في حياته وهي مواكبة استقلال السودان، فتشبع من تجربته التعددية، التي سبقت الأحكام الاستثنائية والرأي الواحد، وفوق ذلك تعرف عن كثب على الصحافة وعلى دورها في توعية الشعوب، للنهوض من التخلف بثالوثه: الجهل والفقر والمرض. فكان أول من نادى بأن يكون للإعلام الموريتاني إسهامه في تطوير عقلية مواطنيه، إذ ليس كل شغله أخبار الساعة رغم أهميتها، وانخراطه فيها، كمحرر ومذيع. لذلك أنشأ فورا برنامجه الشهير "الحضارة والنظام في القرن العشرين" فكان أول من شخّص مواطن التخلف في تفكيرنا وسلوكنا، بأسلوب مبسط وممتع، رغم حساسية بعض المواضيع.
فتحدث عن التعليم ومناهجه، وعن التعامل في الإدارة، وأهمية الانضباط والطاعة، وضرورة التوثيق، وأرشفة أعمال الدولة. وعالج من جانب آخر قضايا كانت شائكة مثل السمنة لدى النساء، وملابس النيلة لديهن ولدى الرجال، والتمائم المعلقة على صدور الناس بمن فيهم الوجهاء والمشائخ والأمراء، ونمط زيارات المنازل الخصوصية، وظاهرة التمعيش، بدل العمل والكدّ، ومحاربة الاتكالية، ومضار الشاي، وتضييع الوقت في شربه وفي جلسات لعب ظامت و"الكرت". وكان من دعاة إقامة مسرح وطني لبث روح الوعي والرفع من ذوق الناس.
ومما تميَز به أحمدُ الذي زاملني أكثر من أربع سنوات، قبل انتقاله من الإذاعة إلى الصحافة الكتوبة انضباطُه، وجديته وتشبعه بروح الزمالة والدعابة.
ومن المحزن أننا بعد 50 سنة من الاستقلال ما نزال نعيش مظاهر تحتاج إلى التوعية والتوجيه، وتضافر كل الجهود لمواجهتها، فعندما أرى طريقتنا الجديدة في البذخ، في الأكل والشرب وفي الحفلات، وأُتابع أذواقنا في اللبس والمسكن والأثاث، أتذكر برنامج الحضارة والنظام في القرن العشرين.
نعم كبرت المدن، واستغنى من استغنى، وافتقر من افتقر وهم الأكثر، وتراكمت المشاكل وتعقدت، وتدهورت القيم، وضعف الحس الوطني، وطغت المادة، وفسد الذوق، وتضعضع الموروث الثقافي، لتحل محل ذلك كله قيم الغير، وخاصة الدول الاستعمارية، التي تأخذ اليوم ثأرها بعد ستين سنة من الممانعة، وعقدين بعدها من البحث عن استعادة اللغة وتجديد الثقافة، والسعي الحثيث للّحاق بركب الحضارة، مع الاحتفاظ بالثوابت الوطنية والدينية والأصالة.
أمام ذلك نتذكر اليوم أحمدُ بن احميد، الموجه والناقد الاجتماعي، وصاحب الذوق الرفيع والحس المرهف، ونتمنى أن تتجه وسائل الإعلام الكثيرة القوية المؤثرة صوب أغراض الإعلام، من إخبار وتوجيه وتسلية، وتركز على الابتكار والابداع، وليس الاجترار والمحاكاة.
لقد أدى الحيف والتمييز ضد اللغة العربية والمتعلمين بها إلى أن يعود معظم من تنادوا إلى اللحاق بالوطن أدراجهم، بعد أن تعذر المقام في أرض أحلامهم، والعثور على مبتغاهم من عيش كريم.
وفي هذا المقام، دعونا نتذكر آخرين من الرعيل الأول الذين أسهموا في مسيرة إقامة الدولة والدفاع عن استقلالها، من خلال انخراطهم في حقل وليد وخطير هو الإعلام، فلنكرمهم أيضا، كزملاء ونناضل من أجل أن تلتفت إليهم السلطات العمومية، لتفي بحقهم وحق ذويهم، بدل أن تتولى الأمر العائلة والقبيلة.
وممن نتذكر ممن لم يكرموا بعدُ، محمدّن بن حامدٌ، محمد الأمين بن آگاط، خي بابا شياخ، الحاج انكيده، عبد الرحمن بن إبراهيم اخليل، سومارى حامدن.
رحم الله من لقوا ربهم، وشمل بلطفه الباقين، وأنعم على هذه البلاد بالخير العميم، وأخرجها من نفق التخلف، ووقاها من الانزلاقات، وأزال عنها الظلم والحيف.
بقلم: الأستاذ محمد محمود ولد ودادي
23/03/1436- 17/11/14م

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..