منار الطريق : ملحمة شعرية ..
نواكشوط في 07/03/2013 - منقول من موقع " المذرذره اليوم " .
شعر محمدن ولد سيدي الملقب بدنّ- تقديم الأستاذ الأديب محمد الحافظ ولد أحمدو
لقد اطلعت على ملاحم شعرية كثيرة في تاريخنا العربي من أولها قصيدة الحارث بن حلزة اليشكري وهي معلقته ذات المطلع:
آذنتنا ببينها أسماء
رب ثاو يمل منه الثواء
استعرض فيها تاريخ قبيلته بكر بن وائل وأمجادها وسيرها وبطولاتها. وعلى نفس النمط والروي، اطلعت على قصيدة عبيد الله بن قيس الرُّقيَّات التي يبكي فيها على أمجاد قريش ويمدح فيها مصعب بن الزبير رضي الله عنه والتي يقول فيها:
أيها المشتهي فناء قريش == بيد الله عمرها والفناء
إن تودع من البلاد قريش == لا يكن بعدهم لحي بقاء
وفيها يقول في مصعب بن الزبير رضي الله عنه:
إنما مصعب شهاب من اللــــ ـه تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك رحمة ليس فيه == جبروت ولا به كبرياء
واطلعت على ملحمة أمير الشعراء أحمد شوقي التي سماها "كبرى الحوادث في وادي النيل" والتي يقول فيها:
همت الفلك واحتواها الماء
وحداها بمن تقل الرجاء
واطلعت على ملاحم غير ما ذكر، ولكن لم يهزني أي من هذه الملاحم كما هزتني ملحمة "المنار" لزميلنا في الصحافة وصديقنا الحميم الأستاذ محمدن ولد سيدي الملقب بدنَّ فأشهد لقد أصابت شاكلة الرَّمِيِّ، وحزت في المفصل، ورسمت منار الطريق، وسطيا من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين!
واستنهضت الأمة واستثارت فيها روح الحمية والعزة والكرامة، وعزفت على أوتار رخيمة من الدعوة إلى الوحدة الوطنية، وأهابت بالأمة إلى التداول السلمي على السلطة وإلى إسناد الأمر للأكفاء من الأمة وإلى استلهام روح الشريعة السمح بوسطية عدل لا إفراط فيها ولا تفريط.. وركزت على الثوابت الراسخة والقوية لهوية الأمة..
فسدد الله سعي شاعرنا الباحث الداعي المخلص إلى مصلحة الوطن وعزته وكرامته بأسلوب سهل ممتنع لا يخلو من مسحة إكيدية طريفة فيها تحميض ومرح في طيه جدٌّ.
وماذا أقول، لقد استخرجت هذه الملحمة كامن إعجابي واستولت عندي على الأمد في الجوانب التي عالجتها من اهتماماتنا الوطنية.
وإذا كان الشعر العربي شعرا غنائيا في ما يزعم بعض الباحثين، إلا أن الأستاذ محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ قد برهن في قصيدته هذه على قدرة الشعر العربي على تطويع بحوره الخليلية للملاحم الكبرى وهذا ما كنت قد نبهت إلى أنه قد سبق في الشعر العربي. من ذلك مثلا ملحمة امرئ القيس:
قفا نبك.. وقصيدة عمر بن أبي ربيعة: أمن آل نعم .. وقصيدة الفرزدق التي يقول فيها:
هما دلتاني من ثمانين قامة
كما انقض باز أقتم الريش كاسره
فهذه الملاحم الثلاث تعتبر قصصا غزلية ناجحة. وقد سار على منوال هؤلاء بشار بن برد في قصيدته التي يقول فيها:
أعاذل قد نهيتِ فما انتهيتُ
وما اللذات إلا ما اشتهيت
وكنت قد كتبت في جريدة "الشعب" في السبعينيات مقالة نبهت فيها إلى الروح الملحمية في قصيدة الشنفرَى: لامية العرب.
وإذا تصيَّدنا جذورا للملحمة الشعرية في الشعر الشنقيطي، فلا يَبعُد أن نجد لها بواكير في مجمل ما كتب الشيخ محمد المامي من أشعار.
وكنت قد كتبت في أواخر الثمانينيات ملحمة بعنوان: "بقية رَقّ من معلقة الحارث بن حلزة اليشكري"، استعرضت فيها التطورات السياسية والحضارية والاجتماعية لموريتانيا ما بعد الاستقلال. ولكن التقية السياسية ألجأتني في ذلك الوقت إلى توخي الأسلوب الرمزي.
وفي تلك القصيدة أقول:
نظرت أم مالك في سماها == ثم قالت نرجو العلي القديرا
وبكى مالك وقال: صبوحي! == وأبو مالك يدق الشعيرا
ثم خارت سبع عجاف عجاف == قال عمرو أخلق بها أن تخورا
عزل الشرق هذه واجتواها == إن بالماء كائنا مسحورا
ورغت ناقة لديلول قالت == بنته: هل سمعت هذا النذيرا؟
قال ديلول: يا مجير أجرنا == قال شيخ: دعوت حقا مجيرا
وقد فاتني جانب كان ينبغي أن ألتفت إليه، هو الدعوة إلى المسلك الحضاري القيم الذي ينبغي أن تسلكه الأمة، فإذا الأستاذ بدنَّ يأتي بكل ذلك وزيادة، في أسلوب سهل ممتنع لا تنبو عنه أذواق الخاصة، ولا يستعصي على العامة. وأعجبني فيه ما التزمه من تجرد تام وحياد مطلق، طبقا لما يستدعيه موقعه الوظيفي، فسدد الله خطاه وليمض على الدرب.
وكما عهدناه باحثا منقبا عن الشعر الوطني ذي الملامح الخاصة كشعر امحمد ولد أحمد يوره والشيخ التراد ولد العباس، يطالعنا الأستاذ بدنَّ اليوم بهذه الملحمة البديعة التي برهنت على تطويعه الشعر للأسلوب الملحمي.
وكما قيل عن أبي تمام إنه كان في اختياره للحماسة أبدع منه في شعره، أنا أعكس هذا التعبير وأقول: إن الأستاذ بدنَّ رغم حسن اختياره في الديوانين المذكورين – واختيارُ المرء قطعةٌ من عقله كما يقال – فشعره في هذه الملحمة يكاد يغطي على اختياره!!
منار الطريق
أملٌ حلَّ بعدَ طول التنائي == علّق الشعب فيه كلَّ رجاء
فغدا الناس بعد طول انتظار == بحلول التصويت كالسُّعَدَاء
وبعدل التصويت أقسم قوم == فلْيَبَرُّوا اليمين يوم اللقاء
أيها الشعب إن بَرد التداني == طالما ناب عنه حر التنائي
فتعالوا بنا إلى كلمات == بيننا في حق البلاد سواء
هذه الأرض أمنا حكموها == فوضوها وكالة الإدعاء
إيه شنقيط صرخة الشعب دوت == فأجيبي يا أمُّ عند النداء
أوَ ترضيْن للبنينَ هواناً == بعد عيْشٍ في عزَّةٍ وهناءِ
فاستحثي للسيرِ منّا بخطو == ثابتٍ للأمامِ لا للوراءِ
ذكرينا ابن عقبة إذ أتانا == رافعا للعَلاء كل لواء
فبسطنا الصحرا وجئنا بتمر == ولبان والشاه ثم الشواء
ونشرنا الزهور قبل ذبول == يعتريها في روضنا وذواء
وصدعنا بالمدح نظما ونثرا == وهممنا لولا التقى بالغناء
وأقام الصلاة قصرا وجمعا == بجموع أمته للاحتفاء
ومددنا أكفنا لدعاء == فدعا بالشموخ والاعتلاء
أمن القوم للدعا بخشوع == وافترقنا بنية الالتقاء!
ذكِّرينا بمالك و أويس == و ابنِ إسحاق عمدة الفقهاء
ذكِّرينا بالأشعريِّ وعقد == صاغه وفق شِرعة سمحاء
و أنيري لنا الطريق عسانا == نقتفيهِ في شدةٍ ورخاء
واستعيدي من مجدنا ذكرياتٍ == ناصعاتٍ قد رُصِّعت بجلاء
في جبين التاريخ رمزا لشعب == ثابِتِ الأصل فَرعُه في السماء
سطَّرتها أجدادنا بمداد == وبسيف مُهَنَّدٍ ذي مَضاء
فاذكري من صنهاجة الغر شما == مهدوا الأرض قبلُ للنزلاء
كم لهم فيك من مآرب جلت == بك عن ربع مأرب المتنائي
واذكري اليحيويْن يحيى بنَ عمرو == و ابنَ ابراهيمٍ لدى النُّقباءِ
لكأني بالقيروان ويحيى == في حديث يبثه في حياء
لأبي عُمْرانٍ حوى كل بوح == لهموم تعن للرفقاء
وكأن الأمير يحيى عنانا == عند ذكر الصحراء والقدماء
جذبته عناية الله رفقا == مستنيرا من تونس بضياء
لاح من أفق طيبة فتراءت == نيِّرات منه لدى كل راء
فإذا النور ساطع في الأعالي == قد كسا الكونَ منه كلُّ بهاء
وأعيدي ذكر المنارة غَضّا == وعُهُود الرباط عَوْدَ ابتداء
لأَبي بكرٍ الأميرِ أعيدي == ذكرَ عهد الشيوخ والأمراء
واذكري ركض خيل يوسف تزهو == عادياتٍ في الأفق أيَّ عَدَاء
تنشر النور و الزهور بهِ إذ == كان بالعُدوتين طِيبُ الثواء
وأعيدي لناصرِ الدِّينِ ذِكرا == وابنِ ياسينَ صفوةِ العلماء
واذكُري الحضرمِيَّ فينا مشيرا == بإشاراتِ ذي سنًا وسناءِ
ذكرينا عيون خيل لنا قد == حملتنا إلى ذرى العلياء
ذَكِّرِينَا بالشاطري وقوم == نهلوا من معينه بارتواء
فهْو مهما أدليت فيه بدلو == لم تكدر من صفوه بالدلاء
فاض من يمن صوبه كل واد == ومداه قد عم في الأرجاء
واذكري من ولاتة أو ودان == أو بتيشيتَ معدن النجباء
كل بحر من العلوم خضم == قد دعا الناس مخلصا في الدعاء
وبلالَ الوليَّ فلتذكريه == عند ذكر الهداة والأولياء
فبذكر الوليِّ يُرْجَى اصطفاءٌ == تكتسي الروح منه كلَّ صفَاء
وارعواءٌ للنفس عن كل غيٍّ == وأمانٌ من البِلى والبَلاء
ووئامٌ يعم في الناس حتى == يتجلى في سائر الأنداء
واذكْري من سَراتنا أمراءً == من بني معقلٍ حُماةِ العَلاء
هم رواسٍ للأرض بالعدل مهما == حكموا الأرض آذَنَتْ باستواء
وعليهم فاثني بما شئتِ جهرا == إنهم أهل كل ذاك الثناء
فلسان المقال والحال أثنى == ما كفاهم ثناء ذاك الثنائي
و اذكري إذْ بأرض فُوتَ أباة == من بنيها الأئمة الفضلاء
كم لهم في نشر الهدى في المَدى من == صَولةٍ في المَصيف أو في الشتاء
ورماحَ الفوتِيِّ فلْتذكُريها == واذكُري النُّسكَ منه تحت الخفاء
واذكري المَقْفَر المَهِيبَ ودِرعا == وحُسَامًا مُوَكَّلاً بالقضاء
مثله في جهاده وجَدَاه == ما رأته العينانِ لو في المَرائي !
واذكري من جحافل النصر جيلا == قد سقى الأرض من زَكِيِّ الدماء
فجنينا ثمارها يانعاتٍ == دانياتِ القطوفِ عند الجلاء
ذكريات تضيء درب الليالي == وتنير الطريق نحو النماء
فبهذي العهود يا أمُّ طرا == ذَكِّرِي في الصباح أوفي المساء
وخذي العذر إن نسينا فإنا == ما حفظنا ذا العهدَ للعظماء
واقبلي العفو من بنيك إذا هم == أصبحوا منك بعدُ كالبُرآء
إذ غدوا في حِماهُمُ كالحَيَارَى == فوَّضُوا الأمر فيه للغرباء
قالت الأم: قد جهلتم ولا تثــ == ـريب يُلْفَى يوما على الجهلاء
ما أسأتم إن المسيء الذي إن == ظهر الحق مال نحو المِرَاءِ
إنما الحكم دُولَةٌ داولوه == بينكم في مودة الرحماء
والزموا السلم فيه والعدل فيه == والزموا الرفق فيه بالضعفاء
حكموا الشرع والضمير بصوت == جهْوَرِيِّ يُسدَى إلى الأمناء
رُبَّ صوت تلقيه من غير بال == بك يَهوِي أو يَعتلي في الهواء
إن في حَدِّ ذي البطاقات حدا == لشقاءٍ نخافه و ابتلاء
وبهِ إن تأمل الشعب مَدٌّ == لمدى ما يسوء من كل داء
فَبِهِ الدَّاء والدّواء سَواءٌ == فلتُصوت للدّاء أو للدّواء
لا تفوِّضْ وكالة الشعب إلا == لرشيد يسوسه باعْتِنَاءِ
إوإذا ما جرى القضاء بحُكْم == ما علينا إلا الرضى بالقضاء
لولاة الأمور نرعى وجوبا == طاعة قد حقت لذي الأولياء
ما أطاعوا الولي فينا وإلا == حدُّهم في حد البطاقات جاء
نبتغيه عبر الصناديق صرفا == وفق نهج الشريعة الغراء
لا " ربيعٌ " ولا " خميسٌ " أردنا == نَنْشُدَ السِّلمَ منهجَ الحكماء!
وطَنٌ في مَهَبِّ ريحٍ تداعى == خُصماءٌ فيهِ معَ الشُّفَعَاءِ
كلما هَبَّ من بنيه بُنَاة == رفعوا الصَّرْحَ مِنْه بعد عَنَاء
جاءه من أبنائه أدعياءٌ == قوَّضوهُ فانْهَدَّ رُكْنُ البِنَاء
وتصدَّوْا لِذِي البُناةِ بنَهْشٍ == يترك العِرْضَ منْهمُ كالهَبَاء
ورموْهُمْ في حقه بهِجَاء == عن مَدَاهُ ضاقَتْ حُرُوف الهجاء
وطن رَهنَ أسْره أَنقِذوه == آثِرُوهُ عن غيره بالولاء
فلْنصوتْ له ليُحْرِزَ نَصرا == ويَفِي بالوُعود أيَّ وفاء
قد سئمنا ذَوِي عُهود عِرَاضٍ == نبذوها سقيمةً في العَراء
فبقدر الولا له ننتقي مَنْ == نَرتضى مِنْ رجالنا والنساء
إن خير المستَأْجَرينَ قوِيٌّ == و أمينٌ يقول : " كوني ورائي "
أدِّ حقَّ الأَوْطان مهما تُصوّتْ == مُنْكَرٌ صَوتُ تاركٍ للأدَاءِ
واقض ما فات مطلقا من حقوق == وعليك الأداء قبل القضاء
لا تصوت لعمدة عنه نَاءٍ == إن تصوتْ تكنْ إذنْ كالمُرائي
لا تصوت لمن نأى من شيوخ == لا تصوت لنائب عنهُ نَاءِ
إنّ كل المرشّحين سواءٌ == فبما في الإناءِ رشح الإناء
وإلى الله فالْتجيء لا إليهم == لاَ إلى هَؤُلا ولاَ هَؤُلاء
فبذا قد حكمتُ إذ في شجار == بينكم قد لجأتمُ لقضائي
وبمشهور مذهب القوم أدلِي == لو رضيتم بمقتضى إدلائي
سلموه وأنشئوا فيه قولا == أنشدوه فيه مع البلغاء
وطني يا مهدَ الحضاراتِ حقًا == إذْ أضاءتْ في الكون كلَّ فضاء
وأزالتْ عنه غياهبَ جهْل == فغدا الناس في فَضاءٍ مُضاء
كم نفيرا قد اعتمدنا سفيرا == من بنينا الهداة و الشُّرَفَاءِ
كم ضربنا في الأرض شرقا وغربا == كم لنا في العلياء من سفراء
وطني يا أرض الصُّمود ورمزًا == لشمُوخي في رِفعةٍ وارتِقَاء
وطني يا سِرَّ الخُلود وسِرّا == في انتمائي في قُوة وإباء
وطني يا رمْزَ الوفاء وفاء == لك حُبِّي في نُصرة وافْتِداء
قد تذكَّرتُ إذْ ذكَرْتُكَ بيتًا == من قريض الأجِلَّةِ الشعراء:
"لِمُوالِيكَ مَا ارتَجَى مِنْ بَقَاء == ولِشَانِيكَ ما اخْتَشَى مِنْ فَنَاءِ" !
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
Commentaires
Enregistrer un commentaire