التصوف بنكهة أدبية في مجلس الشيخ عبد الله بن بيهْ ..
التصوف بنكهة أدبية في مجلس الشيخ عبد الله بن بيهْ ..
قبل سنة من الآن عنَّتْ لي حاجة عند الشيخ عبد الله بن بيهْ تتعلق بمتابعة عمل لديه يتطلب منه قسطًا من الوقت و قدراً من البحث و جهداً من التفكير و فراغا للكتابة ، و هذه أمور أدرك مسبقاً صعوبة تضافرها لمن هو في مستواه العلمي و يتقلد مسؤوليات دولية في حجم تلك التي يضطلع بها على مستوى العالم .
و نظراً لذلك ، و بالرغم من تعهده تلقائياً بتلبية حاجتي إلاَّ أنني ما فتئتُ أتفهم واقعه و بالتالي أنصفه في أي تأخر قد يحصل في إنجاز العمل المطلوب.
و مع ذلك فقد كنت من حين لآخر أداعب الوسطاء بيني و بين الشيخ من أبنائه و أحفاده و منهم أخي و صديقي سعادة السفير محمد محمود بن الشيخ عبد الله بن بيهْ .
و من ذلك أنني كتبت إليهم مرة بدون تعليق القصة التالية : " ارتحل العلامة محمد والد بن خالُنا الأبهمي إلى الإمام الشيخ محمد اليدالي فأخذ عنه الطريقة الشاذلية . ويحكى أنه لبث زمنًا طويلا في حضرته دون أن يأذن له في الرجوع إلى أهله حتى استبطأ ذلك جداً .و معلوم أن محمد والد كان حسن الصوت و الشيخ اليدالي كان يطرب له كثيراً فاتفق أنه بات ليلة بحيث يسمع الإمام اليدالي صوته و جعل يردد بتطريبٍ جميل قول أبي الطيب المتنبي:
ومن الخير بطء سيبك عني
أسرع السُّحب في المسير الجهام!
فلما أصبح الإمام اليدالي بعث إلى مريده والد من أتاه به فدعا له بخير و منحه التقديم في الطريقة وبلغه إلى أهله فانتشر صيته وطار ذكره وبلغ من الجاه في الزوايا والعرب ما لا عهد لهم بمثله”.
هذا و بعد أيام من إرسال تلك الرسالة بالبريد الألكتروني وصلتني من عند أخي سعادة السفير محمد محمود الرسالة التالية خالية هي الأخرى من أي تعليق : ارتحل الوزير لسان الدين بن الخطيب إلى مدينة سَلاَ للقاء الشيخ أحمد بن عاشر و مكث عنده سنةً كاملةً دون أن يأذن له باللقاء ..و بعد أن تحقق اللقاء اعتذر له الشيخ قائلاً : أبطأتُ في لقائك و ما حبسني عنك إلاَّ فرض من فروض العين !
و تمر الأيام و أحضر في أبو ظبي بدعوة من الشيخ عبد الله حفظه الله الملتقى السادس لمنتدى تعزيز السلم في المجتمعات المسلمة المنعقد تحت رئاسته من 9 إلى 11 دجمبر 2019 تحت عنوان " دور الأديان في تعزيز التسامح : من الإمكان إلى الإلتزام ".
و قد حضر تلك التظاهرة عدد كبير جدا من رجال الدين من كل الديانات و من شتى القارات.
و بعد انقضاء المؤتمر خصنا الشيخ جزاه الله خيراً بلقاءين في منزله المبارك في ليلتينْ متتاليتين و استغرقت كل جلسة كامل الحيِّز الزمانيِّ الواقع بين العشاءيْن .و كنا نرافقه لأداء صلاة العشاء في المسجد المجاور سيراً على الأقدام .
و أثناء إحدى تلك الجلسات جرى الحديث عن حجم الحضور اللافت من رجال "الديانتين" : النصرانية و اليهودية .و فجأةً أومأ إليَّ برأسه و هو يقول بالحسانية مداعباً :" شفتْ انتَ يبويَ عن حدْ عندُ ذَ منْ القساوسَ و الحاخاماتْ منصوفْ إلى ما أُوفَ بالتزاماتُ بالعجلَ ؟! عندئذٍ فقط فهمتُ أن الشيخ لم يكنْ بعيداً عن الجواب الوارد من الجماعة بواسطة البريد الألكتروني لسعادة السفير الصديق !
و كأنما كان يريدني أن أزداد يقيناً بالموضوع ، فقد انتقل حديث الشيخ إلى مجال التصوف و الكرامات و بعد الفراغ من الكلام خاطبني قائلاً ما مضمونه :" أما أنت فلعلك تصدق مثل هذه الأمور إذ يبدو أن لديك إلماماً بالشاذلية (إشارة إلى قصة والد و اليدالي )أما هذا - و أشار إلى أحد المؤتمرين الحاضرين يداعبه - فقد قيل إنَّ أحداً من أبناء عمومته عثر بحضوره شخص فسقط على الأرض فصاح قائلاً بصورة عفوية : " اللهُ و رسوله " ، فعلق هو قائلاً على وجه النقد الاجتماعي لواقع معين : " أما هذا فأجزم أن لا شيخَ لهُ ، إذ لو كان له شيخ لماَ استنجد بغيره !
و هكذا كان الشيخ رغم تعبه و انشغاله يستفسر ليطمئن على شؤون الضيافة و يخص مختلف الضيوف بما يدل على عنايته به بمن في ذلك ذلك الطالب المسلم من جامعة الزيتونة في الولايات المتحدة الآمريكية الذي يستوضح بجد و إسهاب عن أمور تتعلق بأطروحته في الماستر في موضوع أصول الدين بحضور رئيس الجامعة الشيخ حمزه يوسف نفسه.
و أعود إلى موضوع ابن الخطيب و ابن عاشر لأقول إن ابن الخطيب (713 - 776هجرية ) بعد وصوله إلى المغرب لأول مرة ، انتقل بين ربوع ذلك البلد زائرا لمدنه ومعالمه، وملتقيا بكبار علماء عصره من فقهاء وصوفية المغرب الأقصى، إلى أن أقام مع أسرته في مدينة سلا.
و أثناء مقام ابن الخطيب في سلا لقي سيدي أحمد بن محمد بن عمر بن عاشر (ت في رجب من سنة أربع أو خمس وستين وسبعمائة هجرية).
و كان ابن عاشر قد صحب الشيخ العالم أبا عبد الله اليابوري الرباطي و من تلاميذه : علي بن أيوب الرباطي و محمد الحلفاوي الأشبيلي و ابن أبي مدين العثماني .
يقول عبد الله التليدي عن ابن عاشر هذا في كتابه: "المطرب في مشاهير أولياء المغرب" إنه كان من كبار العلماء العاملين منقطعا عن الدنيا وأهلها كثير النفور من الأمراء ورجال الدولة، لا يكاد يواجه أحدا منهم .
و قد جاء في كتاب " نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب و ذكرِ وزيرها لسان الدين بن الخطيب لمؤلفه شهاب الدين أحمد بن محمد المقري التلمساني :
" قال ابن عرفة : "ما أدركتُ مبرِّزاً في زماننا هذا إلاَّ الشيخ أبا الحسن المنتصر و أحمدْ بن عاشر من سَلاَ ".
و قال أبو عبد الله بن صعد التلمساني في كتابه " النجم الثاقب في ما لأولياء الله تعالى من مفاخر المناقب " إن أحمد بن عاشر قصده أمير المؤمنين أبو عنان و ارتحل إليه عام 757 هجرية فوقف ببابه طويلاً فلم يأذن له ، و انصرف و قد امتلأ قلبه من حبه و إجلاله ، ثم عاود الوقوف ببابه مراراً فما وصل إليه . فبعث له بعض أولاده بكتاب كتبه إليه يستعطفه لزيارته و رؤيته ، فأجابه بما قطع رجاءه منه ، و أئس من لقائه و اشتد حزنه و قال : هذا ولي من أولياء الله تعالى حجبه الله عنا!.
ذلك ما حصل مع السلطان ، أما الوزير ابن الخطيب فقد لقي الشيخ أحمد بن عاشر و لكن بعد جهد جهيد و تحدث عن ذلك اللقاء في كتابه " نفاضة الجراب في علالة الاغتراب " فقال:" و لقيت من أولياء الله تعالى بسَلاَ الوليَّ الزاهد الكبير المنقطع القرين، فراراً من زهرة الدنيا ، و عزوفاً عنها، و إغفاءاً في الورع ، و شهرة في الكشف ، و إجابة الدعوة ، و ظهور الكرامة ، أبا العباس بن عاشر . يسَّر الله تعالى لقاءه على تعذُّره، لصعوبة تأتِّيهِ ، و كثف هيبته، قاعداً بين القبور في الخلاءِ ، رثَّ الهيئة، مطرق اللحظ ، كثيرَ الصمت، مفرط الإنقباض و العزلة .قد ضرسه أهل الدنيا و تطارحهمْ ، فهو شديد الاشمئزاز من قاصده مجرمز للوثبة من طارقه ، نفع الله تعالى به".
هذا و كان لسان الدين بن الخطيب قد خاطب أهل سلا لما استقر بها و اطمأن جنبه فقال:
أَيا أهل هذا القُطر ساعده القَطرُ
بُلِيتُ فدلُّوني لمن يرفع الأمر؟
تشاغلتُ بالدنيا و نمت مفرِّطاً
و في الشغل أو في نومتي سُرِقَ العمرُ!
و يشاء القدر أن تتهيأ الظروف من جديد لابن الخطيب فيعود إلى الأندلس مكرماً بعد أن غادرها مكرهاً و من هنالك يحن حنيناً إلى سلاَ و أهلها و أهله بها فينشد قصيدته العينية الشهيرة التي مطلعها :
خدع الشوق فؤادي فانخدعْ
أفلا أقصر شيئاً و ارتدع ؟!
و يقدم لهذه القصيدة في كتابه "نفاضة الجراب " بقوله : و قلت و قد بعثتُ بها إلى مدينة سلاَ حيث أهلي و ولدي إلى هذا العهد .
و في هذه القصيدة البديعة يقول ابن الخطيب :
إن سلاَ قلبيَ من بعد سلاَ
فإلى الغدر بلا شك نزعْ
ثمرُ القلب بها خلَّفتُهُ
هل لقلبي بعدها من منتجعْ؟
أمتع الدهرُ بها لمَّا سهاَ
ثمَّ لمَّا استشعر السهوَ رفعْ
و إذا جئتُ ربوعاً بعدها
فعلَ اللهُ بقلبي و صنعْ
أبلغنْ صحبي بها ممحوضةً
ناظر المسك شذاهاَ فانقطعْ
بوليِّ اللهِ فابدأْ و اقتصد
واحدَ الآحاد في باب الورعْ
و وليّ الله هذا الذي يعني لسان الدين بن الخطيب هنا هو سيدي أحمد بن العاشر طبعاً .
ملاحظة : التقطت الصور المرفقة ليلة الثلاثاء المنصرم في منزل الشيخ في انواكشوط و يظهر معي فيها فضيلة القاضي أحمد الحسن بن آلاَّ رئيس المجلس الأعلى للفتوى و المظالم.
رحم الله السلف و بارك في الخلف.
Commentaires
Enregistrer un commentaire