البروفسور أحمد سالم ولد ببوط رحمه الله و خيار التدريس و البحث ..
البروفسور أحمدْ سالم ولد ببوطْ..خيار التدريس و البحث..
قال العميد جورج فيدل Georges VEDEL و هو أحد أهم المرجعيات القانونية في فرنسا في القرن الماضي عن الأستاذ أحمد سالم ولد ببُوط في تقديمه لكتابه " إضافة المجلس الدستوري إلى القانون الإداري" :
" إن قراءة سطحية أو على العكس من ذلك إفراطا مُوغِلا في توخّي الدقة كلاهما قد يعصف بكل شيء.و لكن المؤلف نظرا إلى سَعة فقهه يستوفي الموضوع و ما يتجاوز قط حد الضرورة اللازمة".
Une lecture superficielle,ou,à l’inverse,une subtilité gratuite peuvent tout gâter. Or, de son érudition l’auteur fait un usage complet mais jamais superfétatoire.
صدق العميد فيدل فإن الأستاذ أحمد سالم ولد ببوط ما تجاوز قط حدَّ الضرورة حتى في الكلام بل إنه يكاد لا يبلغ فيه حدَّ الضرورة في أغلب الأحيان و خاصة إذا كان هنالك أدنى احتمال لتأويل كلامه بمفهوم يصب في سياق الجدل.و له في ذلك قولة مأثورة :" ليست واجهات المنابر الإعلامية هي الحلبة الأمثل للنقاش بين أهل الإختصاص و إنما مكانُه المناسب هو بطون المجلات العلمية المتخصصة".
.و لولا ما تنشره له المجلات العلمية في أوروبا من دراسات قانونية بعضها بطلب من المركز الوطني للبحث العلمي في فرنسا CNRS لمَا تعرَّف الباحثون على مصداق ما ذكره عنه العميد فيدل في مقدمته الآنفة.
و هذه المقدمة المشهورة شفعها العميد فيدل بالمطالبة بإلحاح بطباعة ذلك الكتاب الذي أشاد به و أطرى صاحبه في أكثر من موضع قبل أن يختم فيقول:" لا أعرف ما هي المشاريع التي يرسمها ولد ببُوط لنفسه و له وحده كامل الحرية في تحديدها.و لا يُمكنني أن أُفيده إلاَّ بقناعتيْن اثنتيْن:أولاهما أن كتابه كتاب فائق و سيحتل مكانة مرموقة في أصول و قواعد القانون الفرنسي.و الثانية هي أنه إذا كان يتوجه صوب التدريس و البحث فإنه قد بادر فبرهن بجدارة على مدى أهليته لذلك الطموح ".
J’ignore quels sont les projets de M.Ould Bouboutt et il en est le seul maître.Je ne peux lui apporter que deux certitudes.La première est que son livre est de premier ordre et tiendra une place considérable dans la doctrine française.La seconde est que , s’il se destine à l’enseignement et à la recherche,il a déjà convaincu du bien- fondé de son ambition .
فعلا لقد صدقت فراسة العميد فيدل في قناعتيْه إذْ أصبح الأستاذ ببوط مرجعية في القانون الفرنسي و بالتالي في جُزئه الفرعيِّ القانون الدستوري الموريتاني كما ضرب صفحا عن المناصب السامية و آثر طريق التدريس و البحث .و انسجامًا مع ذلك الطموح عُرضتْ عليه حقيبة العدل من حكومتيْن متعاقبتيْن فأعرض عن تقلدها.قال لي مدير ديوان الوزير الأول آنذاك محمدْ ولد معاويه: دخل الأستاذ ببوط على معالي الوزير الأول ضمن لائحة المدعوين من أعضاء الحكومة المرتقبة ثم خرج و كما فعلتُ مع زملائه بادرتُه بالتهنئة و لكنه فاجأني بقوله: ٱدَّخرْها لغيري من المدعوين!
سمعتُ بالأستاذ ببوط من بُعْدٍ و عرفتُه عن قرب . سمعتُ به لأول مرة بواسطة طالب موريتاني يدرس في السلك الثالث من القانون في دكار و قال إن أساتذته لا يفتأون يذكُرونه بإعجاب باعتباره إحدى المرجعيات العالمية البارزة في القانون العام.
و عرفته عن قرب حين عملتُ معه طيلة المرحلة الإنتقالية الأولى 2006 -2007 و أنا عضو في هيئة يرأسها باعتباره مستشارا للوزير الأول هي اللجنة الفنية الدائمة للجنة الوزارية االمشتركة المكلفة بالمرحلة الإنتقالية حيث كنت أحد الممثلين الفنيين لوزارة الداخلية بصفتي مديرا للتشريع و الترجمة و التوثيق.و كان وزيرنا آنذاك هو أخونا في الله و رفيقنا على الدرب السيد محمد أحمدْ ولد ألَمين.
و في تلك الفترة شهدتُ مع الأستاذ ببُوط مشاهد ما أحب أن لي بها حمر النعم من أبرزها ثلاثة:كنت إلى جانبه في تلك الليلة البيضاء و هو يعالج تبِعاتِ موضوع البطاقة البيضاءو هو موضوع مثيرٌ و الحديث فيه ذو شجون.
ثم رافقته في اليوم الموالي مغلِّسين إلى مكتب الوزير الأول ثم سرعان ما انتهى بنا المطاف جميعا داخل مكتب رئيس المجلس العسكري رئيس الدولة ذي الخطبة المدوية يوم أمس في قصر المؤتمرات حول موضوع الحياد موضع الخلاف الحاد بين أعضاء المجلس. هنالك كان إلى جانب الرئيس الوزير الأمين العام للرئاسة السيد حبيبْ ولد همَّتْ و مدير الديوان الدكتور محمد الأمين ولد داهي .و هنالك أيضا أُفسح المجال للأستاذ ببوط فعَرض اقتراحه القانوني الذكيَّ المؤصَل فأَجازه الرئيس فاجتازتْ به البلاد أزمة سياسية خطيرة.
و كنت إلى جانبه أيام الحوار المنظم خلال المرحلة الإنتقالية الأولى حيث كنت مقررَ اللجنة الفرعية المكلفة بالمسار الإنتخابي برئاسة الرئيس لاحقا سيدي محمد ولد الشيخ عبد الله .و كان الأستاذ ببوط هو المقرر العام في الجلسة الختامية فقرأ على المتحاورين تقريره النهائي في قصر المؤتمرات باللغة الفرنسية و قرأتُه نيابة عنه باللغة العربية بعد أن ترجمتُه.و كنت إلى جانبه كذلك و هو يرفض باستماتة مُقترحًا يقدمه ذلك الخبير الإنتخابي المنتدب من الأمم المتحدة ليسديَ إلينا مساعدته الفنية السخية بعد أن أبلى بلاءً حَسَنًا في ذات المهمة في العراق الشقيق.
يومها استدعتْ اللجنة الوزارية المشتركة بكامل تشكلتها الأستاذ ببوط و كادت تفرض عليه الإستجابة لمطلب الضيف الأممي الممتعض فما كان منه إلاَّ انتصبَ واقفًا بالسرعة التي غادر بها الجلسة فجأةً و أغلق بابَ القاعة من خلفه.و كان يرأس اللجنة العبقري الألمعي الوزير الأمين لعام للرئاسة حبيب ولد همَّتْ حفظه الله و رعاه.احتكم الطرفان إلى رئيس الدولة و ما تنازل ببوط عن رأيه القانوني و إنما نبّه الحكومة فانتبهت إلى خطأ الخبير الدولي في الخلط بين وظيفتيْ التنظيم و الإشراف في اللجان الإنتخابية .
و حضرتُ كل حلقات ذلك البحث القانوني الراقي الذي شارك فيه أساتذة مرموقون من أمثال الأستاذ محمد محمود ولد محمد صالح و الأستاذ بالْ مندوب الأمم المتحدة في روندا آنذاك و وزير العدل فيما بعد .وقد انتهى ذلك النقاش الهادئ الغني باعتماد اجتهاد الأستاذ ببوط..و قال للجنة الوزارية عندما قدم لها اقتراحه في صيغته النهائية : طوِّفوهُ على من شئتم من كبار فقهاء القانون الدستوري في كافة أرجاء المعمورة فلن يستطيعوا نقضه.
و ابتداءً من ذلك التاريخ صحبته كما يصحب المريد السالك شيخه عارف المسالك إلاَّ أنني كنت أحفظُ منه خاطري أكثر ممَّا يحفظه المريد الصادق من شيخ الشيوخ صاحب الكمال و الرسوخ.كنت مترجمَه المعتمَد للنصوص القانونية التي يقوم بإعدادها . كنت أواكب مختلف مراحل إنشاء تلك النصوص المعقدة من خَلقها نُّطْفَةَ ثم عَلَقَةً ثم مُضْغَةً إلى أن تكسى الشرعية داخل اجتماعات المجلس العسكري للعدالة و الديمقراطية حيث كنت آخذ مكاني إلى جانبه بهدوء بصفة المرافق المراقب.
و في تلك المرحلة ترقيتُ في مدارج السير و السلوك في ذلك النهج إلى أن غمرني حال أوهمني القدرة على بلوغ مرتبة معينةً في إعداد القوانين فشمرتُ عن ساعد الجد و استعنتُ بهمة الشيخ و شيخ الشيوخ كَوكَل و لزمتُ ما شاء الله من القطع و اللصق حتى أثمر ذلك مسودة مشروع أمر قانوني يقضي بإنشاء أول لجنة انتخابية في البلاد فكان ذلك بادرةَ فتح شبه مستطاع في عالم القانون الرحب.
كانت تلك خطوة غير مسبوقة فرضها عليَّ ضيق الوقت و مسؤوليتي كرئيس للجنة الفرعية المكلفة بإنشاء اللجنة الإنتخابية .لم يكن النص مكتملا بطبيعة الحال و لا هو قريب من ذلك و لكنْ ما شفع لي أنني عملت فيه لأول مرة بتوصيات ضرورية من بعض بعثات المراقبة الإنتخابية من الإتحاديْن الإفريقي و الأوروبي و منظمتيْ الأمم المتحدة و الفرانكفونية.
يومها كان الشيخ راسخ القدم في التربية كعادته فقد تعامل مع ذلك النص كما يفعل مع أي نص وليد ولادة قيصرية فأخضعه لما تخضع له أمثاله من النصوص فصقله و هذَّبه و زاد فيه و نقص إلى أن جعله في حلة زاهية مقبولة.المهم أن عضو اللجنة الفرعية أخانا الدكتور حيْمود ولد رمظان هو كذلك مَن وضع مسودة المرسوم المطبق لذلك الأمر القانوني البكر فور اعتماده.
أفخر بأنني قد استفدت كثيرا من تجربة الأستاذ ببوط في مجاليْ القانون و البحث.و انعقدتْ بيني و بينه ألفة لا تزال تنمو و تطَّرد .و بعد أن أنشأتُ "مركز الرشاد لترقية الثقافة و الديمقراطية و الحكامة الرشيدة في موريتانيا" بلغ من تواضعه أنه كلما استدعيته اندعى طواعيةً لمساعدتي في الإضطلاع بالجانب القانوني من التكوينات التي أنظمها من حين لآخر لصالح قيادات الأحزاب السياسية.
و بالمناسبة كثيرا ما يتمثل الأستاذ ببوط بقولة لأحد أساتذته السنغاليين فيقول: كان أستاذنا إبراهيما انجايْ يملي علينا في السنة الجامعية الأولى درسا في القانون و فوجئنا به يوما و هو يمطرنا بوابل من المصطلحات باللغة الإنكليزية فانطلق الطلاب يزمُّون بصوت واحد يُحدثُ دويًّا متواصلا في المدرَّج بما يفيد جهلهم بما صدر من الأستاذ.فأمسك الأستاذ عن الإملاء هنيهةً حتى إذا عمَ الصمت داخل القاعة خاطب التلاميذ قائلا:" أعلم أنكم ستتخرجون من هذه الكلية و كلكم حاصل على شهادة معتبرة في الحقوق.و لكنني أقول لؤلائك الذين يريدون من بينكم أن يكونوا قانونيين أنه لا مناص لهم من تعلُّم اللغة الإنكليزية!"
لعلي أطلت دون أن أتنبه و أختم هذه التدوينة عن البروفسور ببوط بما ختم به العميد فيدل مقدمته البديعة عن كتابه البديع إذ يقول :" إن المؤلف يتحمل المسؤولية في انحرافي خارج الموضوع.إن كتابه يعتبر نجاحا باهرا يغري القارئ بعدم التملص منه حتى في نهاية الصفحة الأخيرة !"
L’auteur est responsable de mon " hors du sujet " . Son livre est une si belle réussite qu’il donne envie de ne pas s’en séparer tout à fait à la dernière page
و في النهاية أذكر بأن للأستاذ أحمد سالم ولد ببوط دراسات قانونية قيمة في دوريات علمية عالمية متخصصة معظمها حول الدستور الموريتاني الذي واكبه منذ نشأته الأولى حتى اليوم.و دراساته كلها ممتعة جيدة تمتاز بتلك الخصال الحميدة التي شهد له بها فيدل و هي بالإضافة إلى جودة الأسلوب:" سعة الإطلاع و الدقة في البحث و الذكاء المتوقد ". و لمن يريد الإطلاع على بعض هذه الدراسات فقد اختزلنا الطريق بنشرها في موقعنا التالي:
fr.centre-rachad.org
Commentaires
Enregistrer un commentaire