من وحي التجربة: ذكريات في مرابع كيفه ..
من وحي التجربة: ذكريات في مرابع كيفه ..
قرأت قبل أيام تدوينة بديعة لأخي الدكتور معاذ بن سيدي عبد الله نشرها تحت عنوان :" الآن في كفه: أيام في مرابع الصبا والأحباب " استعار فيها من الشاعر الراحل نزار قباني عاطفته الجياشة في القطعة التالية للتعبير عن مشاعره الطافحة وهو يستعيد ذكريات الصبا أيام زمان عندما كان يلهو برسم الصور على الجدران ويكسر اللعب على الحيطان ويستخرج من أوعيته البساتين التي كان يجني من قطوفها الدانية ثمارها اليانعة من العنب فتظل حباته اللاصقة في خيطان قمصانه تلاحقه طوال غربته الطويلة في فضاء الثقافة والأدب والأخلاق ثم يتنبه فجأةً وهو الهارب عن الحب فإذا به هارب فعلا ولكن نحو الحب لا من الحب :
تلك الزواريب كم كنزٍ طمرت بها
وكم تركت عليها ذكريات صـبا
وكم رسمت على جدرانها صـوراً
وكم كسرت على أدراجـها لعبا
هـذي البساتـين كانت بين أمتعتي
لما ارتحلـت عـن الفيحـاء مغتربا
فلا قميص من القمصـان ألبسـه
إلا وجـدت على خيطانـه عنبا
كـم مبحـرٍ.. وهموم البر تسكنه
وهاربٍ من قضاء الحب ما هربا
أنا أيضا مثل صديقي الدكتور الشيخ معاذ لي في مرابع كيفه ذكريات جميلة ،في عهد الصبا كذلك ولكنه الصبا المهني في مستهل تجربتي الميدانية في مجال الادارة الاقليمية. تمثل مدينة كيفه بالنسبة لي الشيء الكثير .. فيها تقلدتُ أول منصب في الادارة الاقليمية : الوالي المساعد المكلف بالشؤون الادارية (من 10-10-1990 إلى 16-01-1991م) خلفا للإداري المرحوم افّالْ أحمدو مسعود وإلى جانب الزميل كاوْ ادياكيتي الوالي المساعد المكلف بالشؤون الاقتصادية وذلك تحت إمرة والييْن هما على التوالي : محمد محمود بن أحمد رحمه الله و محمد بن عبد الله بن رافع حفظه الله ..كنت أستقبل في مكتبي الصغير (4X3) بعض العظام من رجال الدولة والمجتمع وفي طليعتهم الشيخان : محمد الراظي بن محمد محمود و أحمدو بن الحاج الحبيب تغمدهما الله برحمته الواسعة ( انظر المرفقات).. إذ كثيرا ما كانا ينتظران معي استقبالا من الوالي قد يتأخر أو يتأجل نظرا للجفوة القاسية التي كان يُقابلهما بها النظام آنذاك..كنت أمتُّ إلى كل من الرجليْن بصلة خؤولة أعتزُّ بها أيّما اعتزاز تتصل برجلين كلاهما اسمه سيدْ أحمد. فقد جاء في أنساب العلامة محمد والد بن خالُنا (وقد حققها أخونا الدكتور يحيى بن البراء ) إن أم عيال عمه و شيخه وجدنا المختار بن خالُنا هي الناجمه بنت سيد أحمد بن المصطفى بن أبانحمدْ الجكنية، وكذلك فإن جدنا لجهة الأم هو سيد أحمد بن ابَّاه ( بباءٍ مرقّقة ) الأوتيدي الحاجي نسبا الدكوچيِّ وطنا. وبموجب ذلك كنت أسقط مع الرجلين مؤونة التحفظ وأسألهما عن كل شيء فيجيباني بأريحيتهما المعهودة .. ومن أطرف ما يروي الأول قصته المشهورة مع الحاكم الفرنسي في عهد الاستعمار گابريلْ فيرال كما أن من أمتع حكايات الثاني استئجاره - وهو التاجر الملهم - لطائرة أقلت الوزير الأول في إطار قانون الإطار المختار بن داداه ذهابا وإيابا في مهمة طارئة مستعجلة من انواكشوط إلى دكار في مقايضة متفق حولها بينهما تقضي بتحميل الطائرة لدى عودتها من مادة الشاي الأخضر السليم من شبهة المبيدات !و من المصادفات الغريبة أن فيرال وصل الى كيفة في تلك الاونة في رحلة سياحية صحبة حاكم فرنسي آخر في مقاطعتيْ كيهيدي والمذرذرة في عهد الاستعمار هو گستوه..ولكن نظرا للظروف الأمنية المترتبة عن التهديدات الآمريكية بضرب العراق الشقيق ،لم يمكث الضيفان في المدينة إلا ساعات معدودة إذ صدرت التعليمات من السلطات العليا بإلزامهما برفق بالعودة فورا إلى انواكشوط، وكلفتُ بتنفيذ تلك المهمة وفي المقابل ظفر كل منهما بامتياز خاص صادف هوى في نفسه . أما فيرال فقد سمحنا له تلبيةً لطلبه بالمرور لماما على مسكنه القديم وصادف أن وجدناه ركاما دون أن تتغير ملامحه العامة وكاد يبكي على ذلك الطلل بكاء الشعراء العذريين ! وأما گصطونْ فقد شنفتُ أذنيْن بگافٍ من صنف المجاملات التي كان الادباء ينشئونها أو ينشدونها في الحكام الفرنسيين تحت الطلب وهو:
خيركْ يالصنگَ بدْ
من يوم انْ جَ گصطونْ
انهارْ إگسّمْ شدْ
وانهار إگسم طونْ !
وعلى ذكر أدب المجاملات أذكر أنه زارنا مرة سعادة سفير الولايات المتحدة الأمريكية لبارونْ في مدينة شنقيط (2001-2002-2003-07-07-2004) صحبة صديقنا محمد بن محمدُّ بن أوفى (وكانت زوجته مصرية) ، وبينما نحن في مأدبة عشاء في نزل سياحي قرب حي انتْكمكمتْ أقامها على شرفه صديقنا العمدة محمد بن اعماره ، إذ فوجئنا به يلح إلحاحا في أن يشاهدَ بأم عينه ما سمعه عن الشناقطة من امكانية ارتجال الشعر بصنفيه الفصيح والعامي .. و هكذا تعيَّن عليّ تلبية الطلب غيرةً على أرض المنارة والرباط ، وقلت بعد ذلك لأستاذنا سيد أحمد بن الديْ إنني فعلت ذلك نيابة عنه .قلت :
سعادة لبارونْ
يختيرْ ابلا خلافْ
ينگالْ الليلَ هونْ
گافْ .. أراعِ ذَ گافْ!
وقلت كذلك القطعة التالية مرحبا بسعادة السفير ..
يا مرحبا بسفير جاء زائرَنا
بأرض شنقيط حيث العلم يُقتطفُ
والمجد مُقتطف منها ومُقتطفٌ
منها الإباء من آباءٍ لنا سلفوا
ومرحبا قولها باللفظ متحدْ
لكنها باختلاف الناس تختلف!
ومن شنقيط أعود إلى كيفه لأقول إنني شاركتُ هناك ولأول مرة في مساري المهني في تنظيم الانتخابات البلدية التي تم فيها اقتحامُ آخر المعاقل السياسية لوزير الداخلية المُقال جبريل بن عبد الله رحمه الله : بلدية كيفه وذلك بعد أن دكت الادارة دكا آخر معاقله الاقتصادية في تاهْميْره وهي ضيعة شاسعة مسورة كانت حصنا حصينا يحتضن المراعيَ في فصل الخريف لترعى فيها أَنعامُ الوزير في فصل الصيف .. وبعد صدور النتائج حضرتُ تنصيب العمدة الجديد صديقنا المختار بن بوسيف حفظه الله خلفا للعمدة السابق ميشلْ فيرجسْ رحمه الله. وقد ترأس مراسيم التنصيب وفد رسمي منتدب من انواكشوط برئاسة معالي وزير المالية آنذاك الإداري الماليّ والدبلوماسيّ و الأديب محمد بن بوبكر وعضوية المستشار الفني لوزير الداخلية : الاداري المثالي محمدي بن صبّاري حفظهما الله.و قد كانت المراسلة التي بثّتها الاذاعة الوطنية عشيتئذ باللغة الفرنسية عن ذلك النبأ الفارق ، محكمةَ السبك جيدة الأداء على مستوى الحدث وهي بصوت زميلنا السيد حاكم كيفه عبدي بن حرمه وبلغته الرصينة المعبرة.. وقال لي بعد ذلك إن معالي الوزير بلغ إعجابه بتلك المراسلة أن كافأه عليها بمنحه قطعة أرضية بذات المواصفات في حي تفرغ زينه بانواكشوط !
ودّعنا معالي الوزير عشية ذلك اليوم على حدود الولاية عائدا إلى انواكشوط وخلفه المستشار محمدي على رئاسة وفد التنصيب المكون من عضوين هما الوالي محمد بن رافع حفظه الله ونائبه العبد لله .وفي ظرف لا يتجاوز الاسبوع طبقا للقانون أشرفنا على التنصيب في 26 بلدية وقد نظمتُ تلك الرحلة المُرهقة الشيقة نظما أضعتُ جلَّه وحفظتُ أقلّه:
حمداً لمن قد جعل الأسفارا
لها مزايا تملأ الأسفارا
لاسيما إن تكُ في نطاق
مُبَاح شرع ربّنا الخلاّق
لما به يُندب في الأسفار
من عبثٍ باللّيل والنهار
والعبثُ المباح منه لا مفرْ
لكل ذي سَفر مُجدٍّ في السفر
كوفدنا الموفد في لِعصابا
ينصّب العمد والنوابا
من نخبة من شعبها منبثقه
بالاقتراع أحرزتْ كلّ ثقهْ
بالاغلبية أو الاجماع
إن يدعُ للإجماع منا داعِ
.........
قد بدأ التنصيب في كيفَ على
بركة الاله جلّ وعلا
يرأسه وزيرنا للمال
والمستشار معه والوالي
و غادر الوزير ثم أكملاَ
المستشار بعده ذا العملا
ووفدنا سار إلى لگْرانِ
فكورُچلُّ بعدهُ فساني
وبعد تنصيب لدى كنكوصا
لهامدٍ كانت لدينا " حوصا "
وبعد ذا سرنا إلى تناها
والبعدُ من تناهَ ما تناهى
..........
ووفدنا قد زار أيضا لفطحا
وميْلميْلَ زار بعضُنا ضُحى
.........
وبعد كامورٍ كذاك الغائره
مضتْ بنا الركاب وهي سائره
لمعشر لدى أبي الأحراثِ
مُعبّإِ الذكور والإناث
.........
وحيثما ارتحل أو ذا الوفد حلْ
في بلد من بلد منه ارتحلْ
يبادر القول بالاعتراف
أنْ ليس للوفد سوى الاشراف
إلى آخر النظم .... وفيه توصيف لمراسيم التنصيب التي تتجسد في توشيح العمدة الجديد وهو هذا الشخص الاستثنائي المسؤول المباشر عن الحلقة الادارية الاقرب للمواطن في التنظيم الاداري الموريتاني .. هذا المسؤول ذو التخصصات المتعددة الذي يزاوج مرتين بين صفتين متمايزتين : فهو رئيس المجلس البلدي وبموجب ذلك له سلطة مطلقة في مجال اختصاصه لا يقيدها سوى الوصاية الادارية والمالية على مداولات المجلس وفي الوقت ذاته فهو وكيل للدولة يعمل تحت إمرة الحاكم في ما يخرج عن اختصاصه ويدخل في صميم اختصاصات الادارة . والعمدة أيضا كان ضابط حالة مدنية و ضابط شرطة قضائية وبموجب هذه الصفة الأخيرة فهو تابع لوكيل الجمهورية من جهة أخرى .وفي بعض الاحيان تنضاف إلى هذه الحزمة العريضة من المسؤوليات سلطة تقليدية سابقة يختزل فيها جميع المسؤوليات الأخرى .. وأتوقف هنا لأروي قصة محرجة بقدرما هي طريفة وقعت لي مع الوالد المرحوم اهميْمدْ ولد بوبكرْ عندما كنت حاكما في مقاطعة ألاگْ .اهميمد كما هو معروف هو الأمير العادل والفتى النابه والأديب الأريب وهو عمدة شگار كذلك وشيخ مقاطعة ألاگ لاحقا وكنت أستفيد كثيرا من مجالسه الممتعة في شگار عاصمة البلدية ومنها استقبالهم لجثة المجاهد ولد امسيْكه يحملها قاتلاه بنشوة المنتصر في طريقهما إلى الحاكم الفرنسي في ألاگ .
ابان التنصيب سنة 1991 لهياكل تهذيب الجماهير حصلت مواجهات عنيفة في المدينة بين طائفة العمدة الأمير والطائفة المنافسة وتضم بعض إخوته وبني عمومته .وأسفرت تلك الاحداث الدامية عن سقوط قتيل من الطائفة المنافسة من قبيلة سُباكْ !كان هذا قبيل تحويلي إلى المقاطعة وبعد قدومي باشرت تلقائيا محاولات الصلح بين المجموعتين القبليتين : أولاد أحمد وسباك فوفقني الله في ذلك وعقدنا الصلح لدى مخيم سُباك في الحدود الشرقية للبلدية بحضور بعض الوجهاء البارزين أذكر منهم الأمير اهميمد نفسه عن أولاد أحمد والشريف محمدُّ ولد اشمُدَّ عن سُباك والكوري بن أوداعه من أغشورگيتْ رحمهم الله والشيخ محمد القاظي من أدنشْ حفظه الله وغيرهم كثير.كنت أحتفظ بنسخة من محضر الصلح في وثائقي الخاصة.ومن خلال تلك المفاوضات تبين أن جماعة سُباك يفتقرون كما يقولون إلى أرض
يتخذون منها موطنا دائما في عموم الولاية . ولهم وعد من حليفهم السياسي المهندس اسماعيل بن أعمر من مالْ بمساعدتهم على إقامة سد إن ظفروا بالارض المناسبة لذلك . وحلفاؤهم من قبيلة أولاد أحمد يدعمونهم في كل ذلك بل ويوعزون إليهم أن هنالك أرضا ميتةً باسم قبيلة أولاد أحمد في حدود البلدية أصبح إقطاعها من صلاحيات الدولة بموجب الاندراس ويمكنهم طلبها ولكنهم يعلمون حق اليقين أن الملكية التقليدية مهما كانت مندرسة في الواقع لا تندرس في أذهان القبائل وبالتالي لا تجرؤ أي إدارة على منحها . هذا وبعد جولات سرية من المفاوضات مع الأمير اهميمد رحمه الله (وأشهد أنه طيِّبٍ كريم النفس جنوحٌ الى العدل والانصاف ) تبيّنت أنه ليس له أي اعتراض على منح الأرض المذكورة للمعنيين من حيث المبدأ ولكنه لا يمكنه بأي حال من الأحوال أن يصرح بذلك علنيا ،وانتهت مفاوضاتنا عند هذا الحد . ومن هنا توصلتُ إلى حيلة إدارية مستساغة أشركه بموجبها في المسؤولية الإدارية باعتباره وكيلا للدولة وأرفع عنه الحرج في المسؤولية التقليدية باعتباره أميرًا لمجموعته القبلية ومنها معالي الوزير الأول آنذاك سيدي محمد بن ببكر ! وهكذا أمرت الشريف محمدُّ ولد اشمدَّ بتحرير طلب لمنح تلك الارض (ليس باسم قبيلته لأن القبيلة لم تعد تملك في الاصلاح العقاري الجديد) وانما باسم تعاونية باسمهم ويكون الطلب موجها إلى حاكم ألاگ باعتباره السلطة الادارية المختصة وبواسطة السيد عمدة بلدية شگار باعتباره العمدة المختص ترابيا ! وبعد أيام أحال السيد العمدة ذلك الطلب يحمل موافقته على المنح المطلوب مشفوعة بتوقيعه و ختمه! وهكذا بادرت إلى منح ذلك الاقطاع الريفي بعد أن حرصتُ على أن اتبعَ فيه جميع الاجراءات الادارية المرسومة بما في ذلك التعليق لمدة شهرين كامليْن! وهنا كانت المهمة الأصعب وهي إقناع الوفود المعترضة من القبيلة المتعاقبة من شگار بمسألتين : أولاهما بأنني أنا و السيد العمدة تصرفنا وفقا للقانون فقط في طلب يتعلق بأرض موات هي ملك للدولة والثانية إقناع هؤلاء بعدم الاعتراض على المنح طوال فترة التعليق ومدتها شهران مرا عليّ كحوليْن كاملين ! إذ لو تم الاعتراض في ذلك الأجل المحدود لأصبحتُ ملزما قانونيا بإحالة الملف إلى الغرفة الادارية باعتباره نزاعا عقاريا جماعيا لا سبيل إلى تسويته من بعد.وانقضى الاجل بسلام فأعددتُ الاقطاع ووقعته وشفعته برخصة استغلال ولم أزل أتابع الموضوع بعد تحويلي من هناك حتى علمت فيما بعد أن چابچولَه أصبحت حاضرة معتبرة طبعها القوم بميسمهم القرآني الخاص وحظيت من الدولة بالعديد من المنشآت من ضمنها سدٌّ كبير وبها مكتب تصويت يضم 500 ناخب !هذا نموذج ساطع من الحالات التي تبرز فيها أهمية صلاحية العمدة باعتباره وكيلا للدولة!وسأكون ممتنا لمن من قراء هذا المنشور من أهل چابچوله استطاع أن ينشر لنا صورة من ذلك القرار المتخذ خلال الفصل الثاني من سنة 1992م.
ومن ألاگ أعود مرة أخرى إلى كيفه لأقول إنني ضمنت النظم المذكور توصيف عمدة البلدية ابّان اللحظات المثيرة الأولى من تقلده تلك المسؤولية الجسيمة قبل أن يتسرب إلى نفسه الاحباط في اللحظات الموالية لمغادرة وفدالتنصيب عندما تنقشع بسرعة نشوة التشريف لتحل محلّها حُرقة التكليف ..و من المفارقات الغريبة أن صلاحيات أي عمدة ريفية متطابقة مع صلاحيات عمدة بلدية تفرغ زينه مثلا ولعلها أوسع من صلاحيات عمدة بلدية انواذيبُ بسبب محاصرته من قبل المنطقة الحرة !
هذا وبعد أن غادر معالي وزير المالية كما قلت ، ثم واصلت البعثة في تشكيلتها الجديدة مهمة التنصيب داخل الولاية ويلزمنا القانون بأن يكتمل ذلك في ظرف أسبوع .. وفي مثل هذا اليوم من سنة 1990 كنا في أولى محطاتنا وهي بلدية لگران التابعة لمقاطعة كيفه حيث تم تنصيب الوزير السابق يحيى بن منكوس عمدة للبلدية .وفي محطة لاحقة جرى تنصيب محمد ولد خطري ولد السگانْ عمدة بلدية كنكوصه.. وأذكر تلك المفارقة الغريبة كذلك الحاصلة في بلدية تناهى التابعة لمقاطعة كنكوصة حيث جاءت بطاقات الحياد ابان الانتخابات أكثر من بطاقات التصويت بنعم للائحة المترشحة الوحيدة .وخلافاً لما أوهمه خطاب الرئيس الراحل اعلِ بن محمد فال رحمه الله في مناسبة لاحقة مشهودة ، فإن ذلك الإشكال لم يمنع وزارة الداخلية آنذاك من حسم الموضوع باعتبار المدد لا العدد : إذ كانت تلك اللائحة مشكلة من التجار وذويهم على حساب المواطنين الأصليين ، ذلك أن تناهى آنذاك كانت نقطة تبادل تجاري نشط مع الجارة مالي وكان الحياد هو الخيار الوحيد المتاح للسكان الأصليين للتعبير عن رفض المترشحين الوافدين !
هذا وقد رافقنا في تلك الجولة الأديب الكبير بابَ بن هدّارْ من سلك الشرطة في الولاية وبالمناسبة فهو أول من أجاز طلعتي "طارق" الوارد ذكرها في أحد منشورات المدون الموهوب إكس ولد إكس إگرگ .
ولتلك الطلعة سببٌ في إنشائها ولانتشارها بعد ذلك سببٌ آخر ، ومعرفة الأسباب مُعينة على التأويل ! كما هو معروف كانت هنالك ظروف أمنية خاصة في عموم البلاد تلك الآونة ناتجة عن تداعيات محاولة انقلاب 1987.. وخلال اجتماع خاص أوعزتْ المصالح الأمنية في الولاية إلى السلطات الادارية بضرورة التسلح احتياطا ولزوم الحذر وخاصة في المبيت.. وكنت الوحيد من بين الزملاء الذي لا يملك مسدسا فوعدني أحد القادة الامنيين من الحضور بإعارة مسدس الاستعراضات العسكرية "طارق " عيار 9مم وهو من صنع عراقي، ولو كان فعل لكنت أول مسلح من العشير بعد استبدالنا السيف بالقلم قسرا في نهاية الدولة الاسلامية في عهد الامام ناصر الدين !هذا وبعد أن انفضّ الاجتماع الأمني في منزل السيد الوالي بساعة (وكنت بقيت معه منفردا لعمل خاص )، إذا بطارق يطرق الباب وبيده مسدس طارق المذكور فيؤدي لنا التحية العسكرية بحيوية ويؤدّي أمانته بإخلاص إلى الوالي مباشرة فيستلمها منه شاكرا دون تعليق ! ففهمتُ من انسيابية المهمة أن غمد المسدس يندسُّ معه داخله لغز أدى إلى تغيير وجهته المرسومة أصلا ابّان الاجتماع! وفي اليوم الموالي أهداني أخي السيد الحاكم عبدي مسدسا بمثابة تحفة وهو من عيار 8مم وقد أخذه مني أحد الإخوة خلسة ولكنه في المقابل روى لي كيف كان يستخدمه : قال إنه كان يعلقه في غرفة نومه في مكان استراتيجي يبدو مباشرة للناظر من النافذة المطلة على البيت من الخارج ليكون بذلك جازرا قويا لذوي النوايا السيئة من اللصوص المنتشرين بكثرة في انواكشوط آنذاك!
تلك إذن هي الظروف التي نشأت فيها طلعة طارق وهي :
"طارق" نبغِ فالحقيقَ
كنتْ انراهْ ؤُ مَرْيَ ثيقَ
وكتنْ غلبتنِ طريقَ
لِنْراهْ ؤُ راهْ أَلِّ غيْرِ
اللّهمَّ لا طارقَ
يطرق إلاَّ بخيرِ !
أما سبب انتشار هذه الطلعة فهو أنني عندما كنت حاكما في لعيون في ولاية الحوض الغربي (1992-1993) سافرتُ إلى الرباط بالمغرب الشقيق لإجراء بعض الفحوص ونزلت ضيفا على صديقي الأعز د. جمال بن الحسن رحمه الله وهو إذ ذاك مدير بالوكالة في المنظمة الاسلامية للتربية والثقافة والعلوم وأذكر أنني صادفت معه في مكتبه ابان مجيئي أستاذنا الدكتور محمد المختار بن ابّاه حفظه الله .وفي إحدى ليالي السمر مع المرحوم جمال في منزله في آگدال حكيت عليه طلعة طارق في سياق معين .. فما كان منه إلا أن نهض واقفا وقال لي جازما :" أما هذه فلا بدّ أن يسمعها مني بابَ دون تأخير "! و كان ذلك بداية نشرها بين الناس بعد طيّها عدة سنوات !
وفي مدينة كيفه عاصمة ولاية لعصابه كنت أتردد كذلك باستمرار خلال سنوات 1993-1994-1995 على مكاتب الولاية وأنا إذ ذاك حاكم مقاطعة گرو ، مرة لغرض العمل ومرة لهدف الاستشفاء وإن أنس لا أنسى ذلك اليوم في منتصف اكتوبر سنة 1995 الذي مرضتُ فيه مرضا كاد يؤدي بحياتي فذهبت للعلاج في انواكشوط .. وبينما أنا هناك ، ولي أمل في الترقية معتلق بوعد بذلك من بعض الرؤساء الإداريين ، إذْ سمعتُ في المذياع من حيث لم أكن أتوقع أن أسمع نبأَ تحويلي من مقاطعة گرو وتعييني مديرا مساعدا في وزارة الداخلية والبريد والمواصلات في إدارة ناشئة في حضيض الهيكل الإداري في الوزارة هي مديرية التشريع والترجمة و التوثيق ! وبهذه المناسبة أيضا قلت :
فلله بيتٌ قد مضى وهْو أشهرُ
تذكرتهُ والشيءُ بالشيء يُذكرُ
تذكرتُ لمّا إن سمعتُ عشيةً
ولي أملٌ فاق الذي يُتصوّرُ
بيانا مبينا بالأثير أثارني
له كنت أصغي خاشعا وهْو يُنشر:
( إذا ما توقّى جانب الروع جاءه
من الجانب المامون ما كان يحذر )!
والبيت الأخير هو من بيتيْن للشاعر الفتى فتًى بن سيد آمين رحمه الله .. يذكر ابن خلدون موريتانيا المختار بن حامدن ما مضمونه أنه كان في حيّ الشاعر فتى امرأة ذات حسب ونسب خطبها من الغرباء مَن أوشكتْ أن تتزوجه قبل أن يتبين وليّها في آخر لحظة أنه ليس كفأً لها بالمعايير السائدة في المجتمع .. وبعد فترة من الزمن خطبها شخص آخر اسمه المامون ادّعى الانتماء إلى الشرف وله من الإسم والوسم ما كان كفيلا بإيهام صحة ذلك الادعاء .. وبعد أن رزق المامون الولد من زوجته المباركة تلك ، تبين للأهل في آخر المطاف أنه لم يكن أهلاً لما حصل وذلك لرجوع أصله الثابت لديهم إلى عكس ما انتسب إليه أصلاً من الشرف !فهيّج ذلك مكامن القول من الشاعر الفتى فتى بن سيد آمينْ فقال :
أبى الدهرُ إلاَّ أن يكون مُفَجِّعاً
بجلبِ الذي يَخشى الفتى وهْو ينظر
إذا ما توقّى جانب الروع جاءهُ
من الجانب "المامون " ما كان يحذرُ !
وأخيرا أصبحت لنا مدينة كيفه معبراً لا مقرا إلى الحوضين تارة للعمل في المقاطعات الشرقية ( لعيون خلال سنتيْ 1992- 1993 وتامشكط 02-12-1998-1999-2000-2001) وتارة في المهام الرسمية وفي كل مرة كانت تثير لدينا من المشاعر أضعاف ما تثيره في صديقنا الدكتور معاذ بن سيدي عبد الله ..وما هربنا قط من حب تلك المرابع تأسيا بالدكتور معاذ إلا وقعنا كما وقع في قبضة محكمة من شرك ذلك الحب الدفين ..
رحم الله السلف وبارك في الخلَف .
Commentaires
Enregistrer un commentaire