جنة الصِّبا و دوحة الإبا.. قراءة في مذكرات الأستاذ أحمدْ كلِّي بن الشيخ سيديا : مسار من المسارات.

 

جنة الصِّبا و دوحة الإبا.. قراءة في مذكرات الأستاذ أحمدْ كلِّي بن الشيخ سيديا : مسار من المسارات.
الأربعاء 02 فبراير 2022
يصف العميد أحمد كلِّي حياته في مرحلة الطفولة بأنها "جنة الصِّبا " ويصف الحقبة التي عاشها في حضن جده الشيخ عبد الله بن الشيخ سيديا بابَ وجدته شانّه فيقول:"كانت تلك الفترة عذبةً ككلّ حياتي . أبوح بذلك حمداً لله وشكرا له " ويضيف في مكان آخر من مذكراته:" لا أتذكر كل شيء عن أهلي ما عدا سعادتنا العارمة وصورة الكتب المتراكمة " !..يصف المؤلف إذن طفولته بأنها كانت جنة بما تنطبع به من براءة وعفوية مسؤولة ، تتناغم فيها بانسجام فطري هوايات الأطفال ومطامحهم مع نماذج معينة من العناصر الطبيعية التي يكتنفها الوسط المحيط بهم .. فهم يتدرجون برفق من مجال لعب الكعاب والقفز على الحواجز إلى تتبع فرائس الصيد البري فيصطادون الأرانب و يروضون الكلاب ولكنهم أيضا يتنافسون في حفظ القرآن وحسن الخط و الغناء إلى غير ذلك من مقومات الفتوة عند مجتمع البيظان ..ولكن أؤلئك الصغار يتعاملون مع ذلك العالم الجميل من حولهم بحيوية لو لم تكن مضبوطة بما أسماه " تراتبية مُحكمة وتنظيما أفقيا دقيقا " لأصبحت شغبا بكل ما تحمله هذه الكلمة من معاني الفوضوية والنشاز .. فمن أين يا ترى يستمد هؤلاء البراعم ذلك السر العجيب في التعامل اللاشعوري الطيب مع هذا المحيط ؟ تكمن الإجابة في مجموعة من العوامل ذكرها المؤلف في مستهل كتابه البديع تندرج كلها تحت عنوان " المدرسة القرآنية " !تلك المؤسسة الحاضنة التي يعيش الآباء والأطفال على حد سواء في كنفها الدافئ باستمرار وسرعان ما ترسم لهم حدود التعامل في ما بينهم و بين بعضهم البعض !ذلك الكتاب المبين الذي يصف المؤلف مكانته في المجتمع حين يقول إن تعلمه " يشكل هاجساً للوالديْن .. فيه يحتدم التنافس ليس فقط بين التلاميذ لكن أيضا بين الأسر "! ذلك المنهاج القويم المبارك الذي تقوم عليه تلك الحضرة القادرية الحاضنة في تلك الربوع الطاهرة وخاصة منها عين السلامة .فهو دليلها الضابط لسيرها وسلوكها، الناظم لحركاتها وسكناتها ، الموجه لمواقفها و المحدد لمصيرها في الحياة وبعد الممات .ففي معرض حديث المؤلف عن جده الشيخ عبد الله بن الشيخ سيديا يقول :" يعني البقاء بجانبه ( يعني الشيخ عبد الله ) مجاورة القرآن العظيم الذي لا يفتر عن تلاوته.يقول إنه كان في البداية يكرر كل سورة منه ستمائة و وخمسين (650) مرة. بالمواظبة على سماعه منه والإنصات له ، استطعتُ بدوري أن أحفظ مقاطع منه قبل الإلتحاق بالمدرسة القرآنية. يجهر بتلاوته عندما نكون وحدنا ويخفض به صوته بمحضر الغير. يحدث أحيانا أن يغفو أو ينام ، لكنه لا يفقد خيط تلاوته .كانت تلاوة القرآن ورجاء الله يستحوذان على نشاطه وتفكيره وحياته ".
إن المؤلف بكلامه المستفيض عن " جنة الصبا " كأنما يرسم لنا الملامح المميزة للوسط الذي سيحتضنه لاحقا ويحملنا اليه بتدرج عبر الفصول التالية من كتابه .. ولو أنه أراد أن يعطيه عنوانا كما فعل مع مرحلة الطفولة لسماه تلقائيا " دوحة الإباء "! تلك الدوحة وارفة الظلال كثيرة الخصال التي يعيشُ تحت سقفها الآمن المواطنون بل والمسلمون كافةً من مختلف المكونات العرقية والاجتماعية في الحضر والبدوِ " تماما كما كانوا من قبلُ وهم في عهد الطفولة " يبيتون سويةً تحت غطاء واحد مصنوع من جلود النعاج المدبوغة يسمى محليا بالفرْوِ "!
ولو شئتُ قلتُ إن هذا الكتاب يجسد بين دفتيه تلك الدوحة الكريمة في مختلف المراحل.. فهو محصّلة لمختلف مراحل تطور الدولة الموريتانية الحديثة عبر تاريخها المجيد وخاصة في مرحلة التأسيس .. إذ ما رأيتُ في هذا الكتاب عنوانا بارزا إلا وتندرج تحته عناوين فرعية عديدة تتضمن من التفاصيل الشيء الكثير .. وما نشرت فيه صورة إلا وتحمل في طياتها من صور الحياة الوطنية عدداً لا يحصى و مددا لا يستقصى.
وكيف لا والرجل نتاجُ حضارة ضاربة جذورها في المجد والإباء وقد نشأ وترعرع وشبّ وشاب - والحمد لله - وهو يتدرج بحكمة ومسؤولية في أروقة السلطة وفي مواكبة مختلف الأحكام المتعاقبة .. وهكذا أُتيح له ما لم يُتح لغيره من فرص الإطلاع عن كثب على مجريات الأمور والمشاركة في اتخاذ القرار .. ونظرا لتجربته الغنية ونتيجة لتربيته المتميزة و انسجاما مع طبيعته الأريحية فهو دقيق في مروياته و صادق في انطباعاته.و انطلاقا من ثقافته الواسعة و فكره المستنير فهو موضوعي في أحكامه وحصيف في آرائه.ويعجبني لدى الرجل فوق كل هذا وذاك مدى حفظه للعهد ويتضح ذلك جليا في حديثه عن الرئيس المؤسس المختار بن دادّاه رحمه الله ..
فلم يزل وفيا لعهده معه قبل عمله معه وأثناء عمله معه وبعد انفصاله عن العمل معه و أثناء رئاسته وبعدها وفي حياته وبعد وفاته ، نلمس ذلك واضحا من خلال مختلف فصول الكتاب و خاصة عندما نقرأ بتمعن ما بين السطور ! ولا باس أن نورد أمثلة على ذلك ..
أولا : علاقته به قبل العمل معه
نتلمس البوادر الأولى لتلك العلاقة في مرحلتين أولاهما عندما كان الرئيس طالبا والثانية في بداية تقلده الحكم في إطار قانون الاطار .
أما المرحلة الأولى فهي علاقة الأقرباء يقول المؤلف :" تعرفتُ على المختار مبكّرا جدا ، عندما كان يأتي بعد عودته من فرنسا لتحية عبد الله ( ابن الشيخ سيديّ باب ). كنت صغيرا وكنا نستقبله كابن زيادة على الروابط العائلية.و يقول كذلك :" لما كنت في ثانوية فيدربْ في سان لويس (اندر ) ، كان يستضيفني في فندق لاَرزيدانصْ أيام الأحد رفقةَ محمد ولد أهلُ ويطلب على الدوام آيْس اكريم للحلوى. ولتسليتنا ، كان يحاكي قسمات وتقطيب وجوه بعض الأصدقاء جرّاء احتساء هذه الحلوى المثلّجة"!
أما المرحلة الثانية فيبدو أنها كانت مبكرة كذلك نسبيا إذ تزامنت مع استلام الرئيس المختار مقاليد الأمور من السلطات الفرنسية، والمؤلف لمْ يزل آنذاك طالبا في إحدى المؤسسات الثانوية الفرنسية.وقد جاءت هذه العلاقة كما يفهم من النص بمبادرة من الرئيس المختار نفسه وبالتمالؤ مع عبد الرحمن بن المولود وربما إرضاء لخاطر جده الشيخ عبد الله بن الشيخ سيديا .يقول المؤلف :" كنت تلميذا في السنة الأخيرة من ثانوية هانري الرابع في باريس .وجدتُ نفسي في أحد الصباحات في سيارة المختار التي تسير بسرعة نحو فندق ماتينيونْ Matignon مقر مكتب رئيس الوزراء الفرنسي ، دون أن أعرف كيف حصل ذلك .كان من المقرر توقيع مراسيم تحويل الصلاحيات بين فرنسا وموريتانيا الناشئة . سيقول لي لاحقا عبد الرحمن بن مولود إنه هو من دبر عملية الإختطاف هذه! عندما قصصتُ المشهد واستغرابي له على عبد الله ، أجابني بأنه قد يعود لسعي المختار لإرضائه".وهنا يجدر بنا أن نتوقف قليلا لنعرف لدى المؤلف ما السبب في الخلاف بين الرجلين وهو الذي يعترف بأنه كان الوسيط بينهما إذ يقول :" في الوقت الذي كنت فيه تلميذا وطالبا ، اتخذني الرجلان ، عبد الله والمختار ، رسولا بينهما ، مراتٍ في أمور خاصة وحساسة جدا".
وفي هذا السياق يقول المؤلف إن صديقه الحميم محمذن بن بابّاه أخبره أن المختار ابّان تدريبه في مجال المحاماة في دكار " كان يعتقد بأن عبد الله (ابن الشيخ سيديا بابَ) هو الوحيد القادر على قيادة البلد إلى مستقبله" أما الشيخ عبد الله فيقول عنه إنه " كان يفكر في كل من محمد ولد مولود (الشنافي) والمختار (ابن دادّاه) لقيادة البلد بميول واضح للأول".
أما عن علاقة الرجلين فيقول المؤلف :" لم يشُبْ علاقة الرجلين إلاّ غيمة واحدة هي ترشح المختار لمجلس الاتحاد الفرنسي ضد سليمان . ليس لهذا السبب في حد ذاته بل لعدم استشارة المختار له مسبقا".
ولعله مما زاد الطين بلّةً ما يذكره المؤلف بكل تجرّد من أن الشيخ عبد الله الذي كان يرى أن لمحمد ولد مولود " كل المواصفات التي تمكنه من قيادة البلاد إلى مستقبلها ، فاتح الوالي الفرنسي في الموضوع فأعطاه موافقته المبدئية، وكم كانت مفاجأته كبيرة أيامًا بعد هذا اللقاء باستقبال مبعوث فرنسي يحمل ملف اعتراضٍ على محمد"!و يخلص المؤلف إلى القول :" هكذا تم التوافق على المختار. إلا أن عبد الله لم ينقطع عن التفكير في سبب استعمال الفرنسيين لحق النقض ضد محمد. " !
ثانيا : علاقته به أثناء العمل معه.
يتحدث العميد أحمدْ كلِّي عن ثلاثة مسوّغات دفعته للعمل مع الرئيس المؤسس وهي :
1- أنه قريب له و معروف لديه؛
2- حماس المشاركة في مشروع وطني؛
3-الشعور بتحقيق الذات .
ويتحدث عن بداية عمله معه فيقول : " كان إبحاري في الإدارة سريعاً. فقد ارتديتُ السترة أيامًا بعد رجوعي من فرنسا ، في البداية كمستشار بالرئاسة. لم يدم الأمر أكثر من شهر أو اثنين .كان الرئيس ياخذ عطله على الدوام في شهر أغسطس . رافقته في سيارته إلى المطار (....) كان لديه اللطف ليقول لي بأنني سأدخل الحكومة فور رجوعه ، وهو ما حصل بالفعل ".
هكذا إذن عمل العميد أحمد كلِّي مع الرئيس المختار فور تخرجه مستشارا ووزيرا قبل أن يصبح أول أمين عام برئاسة الجمهورية.
اتسمت علاقة الرجلين في هذه الحقبة بالثقة الكاملة والنصح المتبادل. إذ كان الرئيس المختار يسدي نصائحه الجزيلة إلى معاونه الأقرب، و يعجبني من ذلك قوله له ما مضمونه :" لا تكتب (في مراسلاتك الإدارية) إلاّ ما لا يحرجك أن يطلع عليه الغير "!وهنا تحضرني نصيحة مماثلة .. عندما كنت حاكما في مقاطعة ألاگ في نهاية سنة 1991 و خلال النصف الأول من سنة 1992 ، اتخذ السيد والي ولاية لبراكنه عن حسن نية (وهو صديق لي حميم) قرارا اعترض عليه الشعب بصورة فوضوية مثيرة وانطلقت المظاهرات في الشوارع و اعتصم المتظاهرون أمام المكاتب الادارية للولاية والمقاطعة، فاتفقت معه على أن أعالج الموضوع بالمفاوضات بدل اللجوء إلى العنف وكان ذلك بالتنسيق مع قادة المصالح الأمنية الجهوية و أذكر أن من بين هؤلاء آنذاك الجنرالان : سلطان على الدرك ومسغارو على الحرس.وبعد يوم كامل من المفاوضات العسيرة توصلتُ إلى حل مرضيٍّ من الجميع بادرت إلى تنفيذه ميدانيا في الحيّز الزماني الفاصل بين صلاة العصر وصلاة المغرب فرضي المتظاهرون وانفضت الاحتجاجات .وشاءت الأقدار أن تمت ترقية الوالي في اليوم الموالي فأصبح أمينًا عاما للوزارة و حل محله والٍ آخر محول من الداخل .. وبينما الأشغال المترتبة عن الصلح تجري على قدم وساق إذ فوجئنا جميعُنا بأمر وزاريٍّ يقضي بنقض الصلح المبرم لأسباب واضحة للجميع وهي أن تلك الأشغال قد تضر بمصالح بعض قرباء معالي الوزير من الجيران . أحجمتُ عن تنفيذ الأمر برهة حتى أيقنتُ أن لا بدّ من ما ليس منه بدٌّ . عندئذ كتبتُ إلى الوزير بواسطة الوالي تقريرا مفصلا باللغة الفرنسية تسهيلا لاستيعاب البريد الوارد و ختمتُه بأنني لا أرى أيّ مسوغ لنقض الصلح المذكور إلاّ أن يكون ذلك إرضاءً لخواطر الجيران!وصادف ذلك تحويلي إلى مقاطعة لعيون فذهبت إلى انواكشوط في انتظار الحاكم الجديد لأسلمه العمل .وبعد عودتي و اكتمال مراسيم استلام العمل، مررتُ بالسيد الوالي في مكتبه لأودعه قبل المغادرة .. فمدّ يده إلى درج في مكتبه بهدوءٍ وأخرج منه وثيقة ناولني إياها وكانت مفاجأتي كبيرة عندما لاحظتُ أنها التقرير ذاته الذي أرسلته بواسطته إلى معالي وزير الداخلية قبل أسابيع! ابتسم الوالي وقال لي : " احتفظتُ لك بهذا التقرير حتى تكون أنت الذي تمزقه بيدك وتلقي أشلاءه في سلة المهملات "! ثم أردف قائلا:" إياك ثم إياك مستقبلا أن تكتب تحت تأثير الصدمة أو الانفعال "!تلك حكمة تشترى بالمثاقيل تكاد لا تغيب عن مخيلتي وما تذكرتها يوما إلا ترحمتُ على روح الإداري الصادق عبد الرحمان بن الداه تغمده الله برحمته الواسعة. وحضرتني الآن حكمة موازية زودني بها والٍ آخر هو انديايْ كنْ ممدو حفظه الله ،وأنا إذ ذاك في مقاطعة گرو و هو والي العصابة ، قال لي مرة :" على رسلك أيها الحاكم.. إنّ من يلاحظ اندفاعك القويَّ في المصالح العامة للمقاطعة يظنّ أن لك فيها مصالحَ شخصية"!
وأعود فأقول إن العميد أحمد كلِّي أفرد فصلا كاملا من كتابه الشيق للحديث عن الرئيس المختار فشهد له بشهادة قال عنها " إنها ليست معزوفة تتغنى بأمجاده بعد موته ولا هي متابعة انتقامية من شخصه "!
وهكذا قال عنه" إنه كان رئيساً مثاليا" وذلك بحكم تربيته التي وضعتْ له " حواجز لا يتجاوزها في مزاولة وظيفته". وقال عنه إنه كان متواضعا و محترما ومحل تقدير من الجميع.ولا يثير أي نوع من الخوف لدى من يقتربون منه ". وقال عنه كذلك إنه كان يعامل جميع معاونيه كما لو كانوا أصدقاءه المخلصين بما يقتضيه ذلك من الممازحة المسؤولة، وأورد أمثلة طريفة من ذلك .
أما بخصوص منهجه في العمل الإداري فقد ذكر أنه ربما تحول إلى إنسان مزعج إذا تعلق الأمر بالعمل الاداري اليومي " لاهتمامه المفرط بتفاصيل لا قيمة لها ، تتعلق غالبيتها بوضع علامات الترقيم وبالخصوص الفواصل"!وكذلك شأنه كلما تعلق الأمر بالسيادة الوطنية فإنه عندئذ " يصبح عنيداً إلى أقصى الحدود ".وعندما يتخذ قرارا سياسيا كان يكرر قوله تعالى: { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}.
وقال عنه إنه كانت له منهجيته الخاصة في العمل ومن ذلك أنه "يحتفظ دائما في جيب بذلته بقصاصة ورق يسجل فيها القضايا العالقة التي تشغل باله " ولا يهدأ له بال حتى يستوفي معالجة جميع تلك القضايا ..وهنا أتذكر أن المرحوم أحمد ولد منيه ابّان عمله وزيرا للداخلية كان يفرض على جميع المشاركين في اجتماعات الطاقم أن يصطحبوا معهم مفكرات لتسجيل التعليمات والملاحظات ..
وأعود فأقول إن المؤلف يصف الرئيس المختار كذلك بأنه كان يتوفر على جرعة من الشجاعة و القدرة على كتمان ما يعتلج في نفسه .. ويقول بأنه بموجب تينك الخصلتين استطاع أن يحقق " إنجاز استقلال البلد وتحقيق وحدته حول دولة عصرية معترف بها "!وقال عنه أيضا إن له قدرة على التغلب على العراقيل المنتصبة أمامه بحكمة بالغة مع " تفادي الصدام كلما كان ذلك ممكنا ".
وبخصوص علاقة الرئيس المختار بفرنسا قال عنه إنه " عندما أصبح رئيسا كانت له مشاعر معقدة تجاه فرنسا . مشاعر مكبوتة من الجذب والرفض في آن واحد ". وفي هذا السياق قال عنه إنه " كان في ثورة دائمة ضد فرنسا وقادتها ، كما لو أن وصايتها لم تنته بعدُ. تقوده لمواقف يصعب تبريرها كالاقتداء الأعمى بسيكو توري حتى في طريقة لباسه "!
قلتُ: وكدليل على هذا الحكم ، يقول المختار في مذكراته ما مفاده أن سيكو توري نفسه قد نبهه مرة إلى ضرورة التخفيف من لهجته المناهضة لفرنسا في خطاب كان يستعد لإلقائه إبان زيارة رسمية إلى غينيا!
ثالثا: علاقته به بعد انفصاله عن العمل معه
تماما كما ساق لنا العميد أحمد كلِّي مسوّغاته للعمل مع الرئيس المختار ، ساق لنا كذلك مسوّغات الانفصال عنه..
يقول في ذلك :" لكل شيء نهاية: لما أدركتُ أن وجودي في الأمانة العامة للرئاسة لم يعد مفيدا وأنه لم يعد من الممكن تلافي الكوارث التي تلوح في الأفُقِ ، اتخذت قرارا شخصيا بالذهاب إلى مكان آخر ..غير أن كل ما يربطني بشخص المختار لم يكن معرضا للزوال (.....) ولمعرفتي بشغفه بالشهادات ، أعلمته بنيتي الذهاب لتحضير دبلوم الدراسات العليا فور افتتاح السنة الدراسية الجامعية في باريس (......) وهكذا استعدتُ حريتي بعيدا عن المراعي الادارية لتلك الفترة ".
وفعلا كما قال العميد أحمد كلِّي ، فإن كل ما يربطه بالرئيس المختار لم يكن معرضا للزوال .وما له أن يكون كذلك . ذلك ما تؤكده الرسالة الرسمية رقم 330 بتاريخ 29 سبتمبر 1977 المنشورة صورة منها في الكتاب والتي يطلب فيها الرئيس المختار من المدير العام لليونسكو آمادو مختار امبوْ أن يمنح الأمين العام السابق للحكومة وظيفة في المنظمة .. وفي المقابل يذكر العميد أحمد كلّي أنه زار المختار في منزله بعد عودته من المنفى و أن الرئيس تأثر تأثرا بالغا عندما حدثه عن الشيخ عبد الله بن دادّاه حتى أجأش بالبكاء ! ويبدو أن علاقات المؤلف برئيسه لم تنته عند موته ولا بعد موته كذلك إذ لا يخفى مدى ما تحمله هذه العبارات التي يصف بها مراسم الصلاة عليهِ و تشييعه حتى دفنه في مقبرة البعلاتية في بوتلميتْ بين أهله وذويه.. يقول المؤلف:" لقد رحل عنا المختار ومات كما عاش متواضعا وبسيطا..طُرِح نعشه العائد من فرنسا على الأرض مباشرة في انتظار الصلاة عليه (...). كان المشهد مؤثرا للغاية .. رفع الجثمان وتبعه موكب لتشييعه إلى مثواه الأخير .في الطريق المؤدي إلى القبر ، كانت هنالك مفرزات من رجال الدرك الوطني.كان ذلك تكريمُ رجلِ الدولة ، أما الموكب فإنه بكل بساطة تكريمٌ للرجلِ "!
كما قال العميد أحمد كلّي فقد كان الرئيس المؤسس المختار ولد دادّاه يستحق التكريم فعلا حيا وميّتا ..فإن له حق التكريم في عنُق كل مواطن موريتاني مخلص للوطن .. ولكنَّ للموريتانيين كذلك حقا ثابتا على جيل التأسيس في أن يكتبوا لهم عن تجربتهم في إنشاء الدولة الموريتانية الحديثة ..وفي هذا النطاق لا زلنا ننتظر بفارغ الصبر الأجزاء اللاحقة من هذه المذكرات الشيقة!
وعلى ذكر حاضرة "عين السلام " ، على ساكنيها مني التحية و السلام، أختم بالقطعة التالية التي كنت قد قلتها على أديمها الطاهر في مناسبة سابقة:
مَنْ يُيَمّمْ في الزَّوْر" عَيْنَ السَّلامَهْ "
ما عليهِ في زَوْرها من ملامَهْ
قلْ لمن رام من مَخُوفٍ سَلامًا
إنَّ عين السَّلام " عين السَّلامَهْ"
فأرجِّي من زورها كلَّ خير
و أرجِّي من الشرور السَّلامَهْ
هي عينٌ ترعى السلامة فينا
هي عنوان مجدنا و العلامَه
رام وصفا لها الخيالُ مُجِدًّا
قلتُ مهلا أيا خَيَالُ أَلاَ مَهْ
ليس يُحصي المُثْنِي عليها ثَنَاءً
كُلَّما قد أَطالَ فيها كلامَه
يَسعد المرءُ في رُباها فمن لمْ
يأْتِها فَلْيُبلِّغَنْها سَلاَمَه !
رحم الله السلف وبارك في الخلَف.
محمدن بن سيدي الملقب بدنَّ .

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..