حق الخيار بين اللغتين : شهادة أؤديها بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية ..
حق الخيار بين اللغتين : شهادة أؤديها بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية ..
وصلتُ مدينة كيهيدي المحروسة في نهاية شهر يناير من سنة 1991 بعد أن عينتُ بها حاكمَ المقاطعة يوم الأربعاء 16 يناير 1991م.
وكان أول ما لفت انتباهي بها يوم قدومي عشيةً هو تلك الأغنية الجميلة التي يؤديها بتناسق عجيب يكاد يكون ملحنا بإتقان فتياتٌ من الجيران يمثلنَ بجدارة تشكيلة المجتمع الموريتاني في أجلى صوره :
صلاة ربي •• مع السلام•• على حبيبي •• خير الأنام
إلى آخر تلك القصيدة البديعة لقطب زمانه الشيخ محمد اليدالي ..
فقد اعتادت تلك الفتيات في عمر الزهر أن يتخذن من شبكة المياه في دار الحاكم مساء كل يوم منهلا يروّين منه أوانيَ مختلفة يتفاوت حجمها وشكلها تبعا لتفاوت سن حاملاتها والمستوى الاجتماعي الذي ينحدرن منه.
وبتكرار الورود والصدور تبيّنْتُ أن جل هذه الفتيات هن من صميم الوسط المدرسي في كيهيدي وأن الكلمات التي يغنين بها هي من المحفوظات التي تلقينها على مقاعد الدراسة النظامية تماما كما اعتاد الجيل السابق من التلاميذ الغناء عفويا بما لصق في أذهانهم من أغان ملحونة من كلمات الشعراء الفرنسيين في عهد التنوير.وهكذا فقد كان التخاطب معهن ميسّرا باللغة العربية و ربما ساعدتْ اللكنة الخفيفة في بعض الأحيان في تمييز أصولهن بعضهنّ عن بعض .
وتمر الأيام وألتقي في إطار العمل بالأستاذ علوي وهو مدير الاعدادية الفرنسية في كيهيدي ولمْ يزل يشكو إليَّ أن مؤسسته معرضة للإمحاء من الخريطة المدرسية لسبب بسيط هو انعدام الأقسام الدراسية التي ترفدها من المدارس الابتدائية وذلك لصالح نظيرتها العربية ! وما زلت أستغرب الموضوع نظرا لقرار خيار اللغة الفرنسية المتاح لبعض أو جل التلاميذ هناك منذ إصلاح التعليم 1979 ، حتى جاء ذلك اليوم الذي زارني فيه في المنزل المدير الجهوي للتعليم السابق في گورغول ( صاحب الصورة المرفقة) وهنالك اغتنمتُ الفرصة فشرح لي بإسهاب كيف حصلت تلك المفارقة الغريبة بمبادرة منه وعن وعي وسبق إصرار ! قال لي الأستاذ محمد فال بن التيجاني رحمه الله في تفسير هذه الظاهرة العجيبة :
[أولا: كنت أعلم أن آباء التلاميذ من إخوتنا المتاح لهم الخيار بين اللغتين العربية والفرنسية يفضلون بالفطرة تدريس أبنائهم باللغة العربية لغة القرآن عن تدريسهم بأي لغة أجنبية أخرى أحرى اللغة الفرنسية لغة المستعمر وذلك نظرا لأكثر من عامل..و لكن عامل السياسة ظل حاسما في مصادرة آرائهم.
ثانيا :كنت أغتنم هذا الواقع في إقناع الآباء بضرورة اختيار اللغة العربية بدل اللغة الفرنسية لتدريس أبنائهم بل كثيرا ما كنت أتمالؤ مع بعضهم في تحديد ذلك الاختيار وخاصة ممن أشترك معهم في الطريقة التيجانية .
ثالثا :كنت أشجع الافتتاحات المدرسية لذوي الاختيار باللغة العربية على حساب اللغة الفرنسية التي كنت دائما أتذرع لذويها في عدم الافتتاح بانعدام المعلمين باللغة الفرنسية] .
ويبدو أن هذه العناصر الثلاثة شكلت قناعة راسخة لدى المدير الجهوي للتعليم في گورگول آنذاك فعمل على تكريسها بمرونة على أرض الواقع ..
و لم أعد أتذكر كيف تعامل المدير الجهوي الجديد ولد الصوفي مع هذا الوضع .. كل ما أتذكره أننا فوجئنا بزيارة معالي وزير التعليم الأساسي مرفوقا بمسؤولين سامين من قطاعه و كان من ضمن برنامجه أثناء تلك الزيارة عقد اجتماع مع رابطة آباء التلاميذ وذلك بحضور السلطات الادارية برئاسة والي الولاية عبد الرحمان بن الداه تغمده الله برحمته الواسعة.
قدم معالي الوزير عرضا موجزا عن الغرض من زيارته للولاية و أفسح المجال أمام تدخلات الحاضرين .. وكانت مفاجأتنا جميعنا كبيرة عندما لوح أحد المتدخلين بورقة في يده وقال :" السيد الوزير لا نطلب منكم أكثر من تطبيق هذا التعميم الرسمي رقم 002 من وزارتكم والذي يُلزم جميع السلطات الإدارية والتربوية على امتداد التراب الوطني بالصرامة في احترام حرية آباء التلاميذ في اختيار لغة التدريس التي يرتضونها لفلذات أكبادهم وذلك طبقا للقانون الموريتاني "! أومأ الوزير إلى المتحدث فناوله التعميم فإذا به يحمل توقيع وزير التعليم نفسه! وتواصلت التدخلات بنبرة تزاوج بين الثناء على اللغة العربية بكل ما هي أهل له من صفات حميدة و النقمة على سدنة اللغة العربية من المعلمين فقالوا فيهم ما لم يقله مالك في الخمر و هم يتذرعون بالاجماع بضعف الأداء التربوي لدى غالبية هؤلاء!وذكرني ذلك الموضوع المثير ما قاله لي مرة أستاذنا سيد أحمد بن الديْ حفظه الله .. قال : " عندما فُرض الخيار قدمتُ إلى إحدى المدارس النظامية أقتاد أحد الأبناء لتسجيله في القسم الأول من التعليم الابتدائي ، فإذا بي أمام صفين متمايزين أحدهما للغة العربية و الآخر للغة الفرنسية فتنازعني عندئذ شعوران قويان أحدهما قومي بوازع الضمير يدفعني للصف الأول والثاني موضوعي يلح علي في اختيار الصف الثاني نظرا لعاملين اثنين: أولهما أن الأدوات التربوية الجيدة - آنذاك على الأقل - قد تكون أكثر توفرا لدى الطاقم التربوي من معلمي الصف الثاني و ثانيهما هو أن المحيط العائليّ للطفل كفيل بأن يوفر له من اللغة العربية ما يغنيه. وفي الأخير غلبت العاطفة على العقل".
وأعود إلى موضوع زيارة الوزير لأقول إنه بعد انتهاء الاجتماع وعد بدراسة الموضوع بصورة جادة مع السلطات الادارية . و مباشرة عند العودة إلى منزل الوالي أنجز ما وعد فبدأ الاجتماع . و بطبيعة الحال كانت آراؤنا مختلفة حول الموضوع، ولكنْ معالي الوزير حسم النقاش بالأمر الصريح بضرورة تنفيذ التعميم المذكور!و تشاء الأقدار أن تبدأ التحضيرات للإنتخابات الرئاسية بمشاركة السيد أحمد بن دادّاه وأن تشملني بموجب ذلك تلك التحويلات الواسعة في شهر دجمبر 1991 للحكام المنحدرين من ولاية الترارزة من مقاطعات الضفة إلى المقاطعات الداخلية في البلاد! وهكذا لم أتابع مجريات الأمور هنالك وإن كنت علمت وأنا في ألاگ أن وزيرا جديدا للتعليم تم تعيينه و أن احتجاجات قوية حدثت في عهده في مقاطعة كيهيدي بالذات !
أما التعميم الوزاري رقم 002 وقد ذاع صيته بعد ذلك ، فلم أتبين حقيقة أمره إلا بعد ذلك بسنوات عديدة (2001-2004 ) وأنا إذ ذاك حاكم مقاطعة شنقيطي.حدثني المدير الجهوي للتعليم في ولاية آدرار آنذاك المرحوم أحمدو بن الطلبه قال:[عندما كنت مديرا جهويا للتعليم في ولاية لبراكنه فوجئنا مرة بتلميذ من بين الناجحين في مسابقة دخول السنة الأولى من الإعدادية من شعبة اللغة الفرنسية دون أن يكون له حق اختيارها أصلاً عند تسجيله في الصف الأول من المدرسة نظرا لأصله العربي! وبعد التداول في شأن هذا التلميذ رفعنا موضوعه إلى معالي وزير التعليم . و هنالك أحيل الملف إلى المفتش العام للتعليم وكان من مقاطعة كيهيدي ، فما كان منه إلاّ أن حرر باسم معالي الوزير تعميما صارما يلزم السلطات الادارية والتربوية على امتداد التراب الوطني بضرورة احترام الخيار وعدم المساومة فيه !وهكذا وقعه معالي الوزير وبرز إلى الوجود التعميم رقم 002 الصادر في شهر ابريل من سنة 1979 الذي نشأ بسبب اختيار الفرنسية خطأً كلغة تدريس لمن لا يجوز له اختيارها أصلا من التلاميذ ، وتم استغلاله بقوة لاستعادة حق اختيار اللغة الفرنسية قسرًا كلغة تدريس لمن يجوز لهم اختيارها من التلاميذ بعد التمكين هنالك للغة العربية ردحا من الزمن "!
رحم الله السلف وبارك في الخلَف .
Commentaires
Enregistrer un commentaire