لطريقة الشاذلية الغُظفية : الإرشاد و الإمداد و الجهاد..
لطريقة الشاذلية الغُظفية : الإرشاد و الإمداد و الجهاد..
لستُ أدري كيف تسربتْ هذه الصورة غير النهائية المتداولة اليوم في وسائط التواصل الاجتماعي من غلاف كتابنا المشترك :" الطريقة الشاذلية الغُظفية : الارشاد و الإمداد و الجهاد "..ذلك الكتاب الذي لا يزال - حسب علمنا - في ردهات المطابع في مكان ما من المشرق العربي ..
ولكن عسى أن تكون لهذا التسريب فائدة بأن تُفرغَ شحنة الانتقادات المألوفة في عنوان الكتاب و في أعراض الباحثين الذين تحملوا عناء تأليفه وفي كاتبيْ مقدمته و خاتمته في انتظار أن يصدر الكتاب فيتفرّغ النقاد لقراءته إن شاء الله بمسؤولية وتمعن!
بدأت قصة هذا الكتاب منذ ثلاث سنوات ونيف عندما كان محمدْ أحمد بن محمد الأمين مدير الديوان الحالي سفيرا في أنقرة عاصمة تركيا .. وكاد يكون موضوعه منحصرا على الشيخ الشريف المجاهد محمد الأمين بن زيْني وجماعته من الشناقطة الأتراك القاطنين حاليا في منطقتيْ قوزان وأضَنَه والقادمين إلى هذه الربوع من أقصى منطقة في الحوض الشرقي بعيْد الحرب العالمية الأولى.
يقول الأخ محمد أحمد :" ابَّان تقديم أوراق اعتمادي للرئيس التركي عبد الله گولْ في مكتبه يوم 23 نوفمبر2010م/ 17 ذو الحجة 1431 ، بصفتي أولَ سفير للجمهورية الاسلامية الموريتانية في تركيا ، فوجئتُ به يحدثني بإسهابٍ وإعجاب حدَّ الانبهار عن تلك الفئة الطيبة من الشناقطة الأتراك من الطائفة الغظفية التي قدِم أجدادُها إلى تركيا من أقصى الشرق في بلاد شنقيط،على ظهور العيس بعيْد الحرب العالمية الأولى، واستوطنوا أقصى الشرق من تركيا في عهد الدولة العثمانية . وكان يقود هذه الجماعة الشيخ الشريف محمدْ الأمين بن زيني القلقمي الغُظْفِي ، فصادف قدومُها بدايةَ حكم الرئيس مصطفى كمالْ أتاتورك ونال الشيخ لديه حظوة كبيرة اقتطع بموجبها لتلك المجموعة الوافرة الوافدة أرضا شاسعة للسكن والتنمية الزراعية والرعوية لا يزالون يستغلونها حتى اليوم.. ولم يزل الرئيس گول يتحدث عن قدرة هؤلاء على الإندماج في المجتمع التركي المسلم الذي أصبحوا جزءا لا يتجزأُ منه.. وتفاجأَ الرئيس التركي بدوره عندما حدثته بالقواسم المشتركة الكثيرة بيْني وبين تلك الطائفة من بني جِلْدَتي في الأصْل و من بني وطنه اليوم .و قد استقطبتْ الطائفة الغظفية التركية اهتمامي طوال مقامي هناك 2010-2018/1431-1439، فإذا بالقوم - رغم اندماجهم الكبير في المجتمع التركي بالإنفتاح والمصاهرة - لا يزالون يحتفظون ببعض العادات والتقاليد الموريتانية الأصيلة و يتمسّكون بقوة بالمنهج الغُظفي".
وقال إن الرئيس عبد الله گول أخبره أنه تعرف صدفة على هذه الجماعة عندما حضر مرة مناسبة اجتماعية في أنقرة لاحظ فيها -من حيث لم يكن يتوقع - وجود صديقه الحميم ورفيقه السابق في العمل في البنك الإسلامي الخبير الموريتاني المنصور بن فتى فأمر أحد معاونيه بأن يتصل به ويعقد معه موعدا لزيارته في مكتبه في القصر الرئاسي وهنالك كانت المفاجأة .. حدثه عن ذلك الشيخ الشنقيطي الصوفي الذي هجر بلاده فارا من الاستعمار في مطلع القرن الماضي يصطحب معه حوالي ستمائة من المريدين وطفق يبحث عن لواء مُنعقد باسم الاسلام يمارس في ظله فريضة الجهاد في سبيل الله .. حدثه عن جهاده في ليبيا إلى جانب المجاهد الأكبر عمر المختار و القائد العثماني أتاتورك وعن مشاركاته في معركة سواني بن يادم في ليبيا والتلعة في مصر مع العثمانيين و صويلح قرب عمّان .وفضلا عن دوره المشهود في الجهاد ، حدثه كذلك عن جهوده المحمودة في الإرشاد و الإمداد وخاصة في الأردن وسوريا حيث علم الناس القرآن ومبادئ الفقه و اللغة العربية و أنشأ مدينة الرشادية وفجّر فيها الماء الشروب لأول مرة في التاريخ وهو ما اعتبره الناس معجزة آنذاك ..وحدثه كذلك عن تلك المناظرة شبه المحاكمة التي نظمها معه الأمير عبد الله - وكان حديث عهد بالحكم - عندما تناهت اليه الشكاوى من كل مكان أن تلك الجماعة الشنقيطية الغريبة أحدثتْ ثورة عارمة في تلك المنطقة البدوية بذكرها المدوي وسلوكها الدينيّ الخاص، وكيف أن مفاجأة الأمير كانت كبيرة عندما رفع إليه فقيهه المنتدب نتيجة تلك المناظرة بقولته المشهورة : "أيها الأمير إن ما عليه هذه الجماعة هو ما أدين به لله عزَّ وجلَّ !. لم يكن ذلك الفقيه سوى الشيخ محمد الخضر بن مايأبى الجكني الشنقيطي !حدثه كذلك عن انتقال ابن زيني وجماعته بعد ذلك إلى تركيا بعد انتهاء الحرب وبدعوة من رئيسها الجديد مصطفى كمال أتاتورك رفيق الدرب السابق للشيخ ابن زيني أيام الجهاد في ليبيا ضد الايطاليين !حدثه أيضا عن دور ابن زيني في تركيا وكيف أنه عمر الأرض بالتنمية الزراعية والحيوانيه و التجارة و استأنف التدريس في محظرته على المنهج الشنقيطي التقليدي مدعمة بمكتبته الزاخرة وبذلك استقطب آلاف مؤلفة من المريدين الأتراك والمغاربة وخاصة منهم الحزائرين .وحدثه أخيرا عن وفاة الشيخ محمد الأمين بن زيني وكيف أنها تزامنت مع ذِكرَى استقلال البلاد ولكن الحكومة التركية العلمانية أمرت - إجلالًا له - أن تنكس الاعلام في تلك المقاطعة و أن لا يظهر بها أي مظهر من مظاهر الاحتفال .ولعله طمأنه كذلك على أن أبناء الشيخ الفقيد و أحفاده وتلامذته في تركيا والشام وليبيا لا يزالون حتى اليوم أوفياء لنهجه في التربية والتدريس والعمل.
وأعود فأقول كادَ هذا الكتاب إذن أن يتخذ من ذلك الشيخ العجيب موضوعا خالصا له ، ولكن بالتشاور الوثيق مع بعض الباحثين ارتأينا أن لا نجتزئ هذا الفرع اليانع من أصله الوارف . ذلك أن الطريقة الساذلية الغظفية في كل مكان تميزت بالارشاد بشحنتها الروحية الدافقة و بالامداد بمنهاجها الدقيق في العلم والعمل والبناء وبجاهدها الصارم في سبيل الله ولنا في الشريف الشهيد سيدي بن مولاي الزين مريد الشيخ الخلَف دليلا صادقا في تگانت وآدرار و في الشيخ عالي ولد آفه الدليمي في الحوض مثالا ساطعا كما أن لنا في الشيخ أبو بكر ألْفَا عثْمانْ كَنْ في گورگول أسوة حسنة ومثالا يُحتذى وفي الشيخ المختار بن يوسف التنواجيوي في السودان ونجله المختار بن يوسف إمام الحرم المكي في المشرق العربي أروع مثال .
صادفت الفكرة هوى في نفوسنا كلٌّ من "زاويته" الخاصة غير الغظفية طبعا ! فأنا قادري و الدكتور يحيى تجاني و الاستاذ احريمُ "مالكي جنيديّ سلَفيّ أشعريّ " كما يصف نفسه. و تحت سقف بيت ابن عاشر ذاك وبين جدرانه الثلاثة دون بقية الأركان كان لقاؤنا الميمون وانطلاق مشروعنا المبارك لإنجاز هذا العمل العلمي البحت بالتعاون مع الزاوية الشاذلية الغظفية التي رأت النور في خضم العشرية المنصرمة.
وقد بدأنا ذلك المشروع برحلات ميدانية متشعبة وطويلة ولكنّ رحلاتنا داخل رفوف المكتبات و في بطون المخطوطات وعقول الرجال و بين السطور في الوثائق الاستعمارية كانت أكثر عددا و أطول أمداً .وكنا في كل مرة نكتشف الجديد المثير عن تلك الطائفة ..ولعل من أغرب ذلك هو تلك المراسلات المتبادلة بين الحاكم الفرنسي العام في اندرْ والسفير الفرنسي لدى الدولة العثمانية حول موضوع ابن زيني وجماعته وذلك ما ينم عن حرص المستعمر الفرنسي الكبير على متابعة الغُظف أينما حلوا وحيثما ارتحلوا .
كنت تكلمت عن هذا الكتاب في تدوينة قديمة ، وذكرتُ أننا تشاورنا بخصوص عنوانه مع خليلنا الخليل النحوي. أما أنا فلم يتجاوز حظي فيه شرف التنسيق بصفتي مدير مكتب الرشاد للدراسات والاستشارات الذي أسندت إليه مهمة المتابعة في إطار عقد موثق.
كنا نؤمل أن يكتمل الكتاب قبل الحملة الانتخابية 2019 ولكن ظروفا قاهرة حالت دون ذلك ..
والخلاصة أقول: إن هذا الكتاب يحمل بين ثناياه مادة علمية رصينة نادرة تتعلق بمحطات مضيئة مهمة من تاريخ بلادنا المجيد لا تزال مجهولة إلاّ النزر القليل .. ولا شك أنه سيستقطب اهتمام المثقفين المخلصين الصادقين من أبناء الوطن بصورة عامة وبصورة عفوية .. وإلى غير هؤلاء أقول : حبذا لو دفعكم الفضول مجرد الفضول إلى أن تقرأوا هذا الكتاب أولا وفي المقابل أنتم حلٌّ من أعراضنا ، فلْتنْتَهكوها ما حلا لكمْ ذلك . انهِشوا من فضلة أعراضنا لديكم بقدر ما قرأتم عن صلاح الشيخ محمد الأغظف الجعفري الداودي وتلميذه الشيخ المختار ولد نوح البوصادي وقرآن الشيخ عالي ولد آفه الدليمي ذي القراءات السبع و قضاء الشيخ المحفوظ بن بيه المسومي وعلم الشيخ محمد فال بن الشيخ سيدي عبد الله بن مايأبى الجكني وإخبات الشريف بابَ حسن النعماوي ونُسْكِ الشيخ سيدينا بن الطالب محمدْ السمسدي و تدبير الشيخ محمد خونَ ولد احمد المامي ولد الطالب و لد
خو ن ولد اجيد ولد الطالب محمد ولد بوكس العلوي وصدق الشيخ أحمد الدرديرْ الحضيري من ليبيا و استقامة الشيخين : فلاح الحنيطي وأحمد الراشد من علماء الزرقاء بالأردن و صرامة الشيخ محمود الثلجي من أرض فلسطين الحبيبة السليبة إلى آخر القائمة الكثيرة ."
نرجو من كل قلوبنا أن يكون هذا الكتاب هو فعلا كما وصفه الدكتور محمد ولد احظانا رئيس اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين من أنه :[كتاب متميز، محكم منهجيا، محيط تاريخيا، وارد سياقا، مطلوب قراءة، متثبت علميا، مقنع موضوعيا. يسد ثغرة كبيرة في المباحث الصوفية بالغرب الصحراوي.وأهم ما يبرهن عليه الكتاب القيم هو أن الطريقة الغظفية لم تكن طريقة دراويش، وإنما كانت طريقة للإصلاح الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي المقاوم، إلى جانب الاعتدال العرفاني والاستقامة السلوكية.. فهي تصوف متكامل الأركان. إلى جانب أنها كانت طريقة مقاومة بامتياز حيثما حلت.والكتاب مقنع شكلا ومضمونا متميز تقديما ومنهجا. ولم أعثر فيه بعد التأمل على مطعن، بل رأيته مرجعا موثوقا، وكتابا متكامل الأركان يفيد الباحث ويمتع القارئ. فأشكر مؤلفيه والأستاذين المتميزين: واضع المقدمة العلامة الحجة الشيخ عبد الله ولد بيه، وكاتب الخاتمة أستاذنا الدكتور محمد المختار بن ابّاه ، و أحث المؤلفين الجادين المحققين على توسيع دائرة نشره حتى تحصل الإفادة، وينسد الفراغ الكبير في المعلومات الدقيقة عن هذه الطريقة الشاذلية الإشراقية التي لم يكتب عنها بعد بهذا الزخم والجهد البحثي الرصين، رغم حضورها الديني والمكاني والزماني واتساعها الجغرافي في المنطقة كلها، بميزات إصلاحية اجتماعية واقتصادية، و سياسية مقاومة. هذا مع تميزها بإعادة الانطلاق من موريتانيا بحمولتها الإصلاحية السنية المالكية لتؤثر في الشرق الأوسط من الجزيرة العربية إلى آسيا الصغرى.
وأعتقد أن عودة الانتشار المتجدد، وعودة التوطن الروحي في المنطلقات التي انتشرت منها الشاذلية في المشرق العربي وتركيا وجوارها في آسيا الصغرى، بعد التوطن الإصلاحي في الغرب الصحراوي ، كان ميزة فريدة لهذه الطريقة من بين سائر الطرق الصوفية المنتشرة في موريتانيا].
قصة المجاهدين المهاجرين من كوشْ إلى قوزان ..
حدثني الخبير الاقتصادي الدولي المعروف منصور بن فتى قال: إن أول من حدثني عن وجود فئة من المواطنين الأتراك ذات أصول شنقيطية هو السيد محمد المختار ولد الزامل عندما كان وزيرا للخارجية والتعاون .. قال إنه عندما كان طالبا في أوروبا مطلع الستينات سافر مرةً ضمن جماعة من الطلاب الموريتانيين بين أوروبا الشرقية والغربية فصادفوا في تركيا - من حيث لم يكونوا يتوقعون - أفرادا قدموا لهم أنفسهم على أنهم من ذوي القربى والرحم ومن منطقة كوش بالذات وسردوا عليهم تفاصيل قصة هجرتهم العجيبة مطلع القرن المنصرم ومقامهم في منطقة قوزان في أقصى الشرق من تركيا .
قال الأستاذ منصور بن فتى : ومنذ ذلك التاريخ وأنا أتحين الفرصة الملائمة لزيارة تلك المنطقة للتعرف أكثر على هذه الفئة من أحفاد اؤلئك العصاميين ، حتى جاء ذلك اليوم الذي دعاني فيه مجموعة من التجار الأتراك لألقي محاضرة عن فرص الاستثمار في افريقيا في إطار ملتقى ينظمونه في مدينة أضنه بالذات .فانتهزتُ الفرصة وسافرت إلى حيث يقيم أؤلئك الشناقطة الأتراك فاستمعت إليهم عن قرب يقصون علي بسند متصل ما عاناه الآباء والأجداد خلال تلك الرحلة الطويلة المثيرة على ظهور الجمال من كوش في أقصى الشرق الموريتاني إلى منطقة قوزان في أقصى الشرق في تركيا مرورا بليبيا و بلاد الشام.وما مر هؤلاء في طريقهم بقرية إلا تلمّذ عليهم منها نفر واصلوا معهم المسار والجهاد.
هذا وكان من بين جماعة ابن زيني الشيوخ والنساء والأطفال من كل القبائل وقد فقدوا العديد من الأفراد على امتداد الطريق منهم من استشهد في الجهاد ومنهم من قضى بسبب الظروف القاسية من مرض داهم أو نقص في الزاد أو بسبب البرد القارس كما حصل لهم في منطقة الأناضول حيث حلوا ابّان مجيئهم محلَّ الأرمن في منازلهم الأولى ..
قال الأستاذ منصور : ابّان مقامي في تلك المنطقة ، أخبرني المضيفون أنهم ينتظرون زيارة فخامة رئيس الجمهورية التركية آنذاك السيد عبد الله گولْ في مناسبة معينة ودعوني للإنضمام إليهم لاستقباله ففعلتُ ولم يكونوا يعرفون أن لي به علاقة أخوية وطيدة. وفي الواقع فهو صديق لي حميم جمعني معه العمل في البنك الإسلامي في جده ردحا من الزمن باعتبارنا مجرد موظفين فيه ، قبل أن يعود إلى بلاده لممارسة السياسة.ولما حضر فخامة الرئيس فوجئ بي في صف المستقبلين فبادر إلى مصافحتي وهو يضحك و يكرر ممازحاً : هل أصدِّق حقا عينيَّ في ما أرى ؟! هل هذا أنت منصور بن فتى ؟! وأنا أردُّ عليه بالمثل: نعم إنه أنا جئت مع أبناء قريتي لاستقبال فخامة رئيس الجمهورية! وبعد مراسيم السلام استدعى أحد معاونيه المقربين - وهو نجل صديق مشترك لنا - وأمره بأن يرتب لي موعدا معه في الأيام الموالية في القصر الرئاسي في أنقره. وأثناء ذلك اللقاء الأريحيّ ، استقطب الشيخ الشريف محمد لمين بن زيني القلقمي وجماعته موريتانية الأصل الجزء الأوفر من حديثنا الذي استغرق زهاء الساعتين!
وأختم فأقول إن أخي منصور أكد لي ما كان رواه لي من قبلُ سعادة السفير محمد أحمد بن محمد الأمين نقلا عن الرئيس عبد الله گول نفسه من أن لصديقه منصور بن فتى دورا في إقناعه بضرورة ممارسة السياسة في بلاده وذلك ما أفضى به لاحقا للإنتخابات الرئاسية التي أصبح بموجبها أول رئيس إسلامي لتركيا سنة 2007!
رحم الله السلف وبارك في الخلَف .
Commentaires
Enregistrer un commentaire