الناجح الأول في اكتتاب أول دفعة من معلمي اللغة العربية في عهد الاستعمار..

من صفحة Mohameden Ould Sidi Bedena

التاريخ : 25 يونيو 2020م

من خبايا الأرشيف الفرنسي :
الناجح الأول في أول  مسابقة لاكتتاب معلمي اللغة العربية في عهد الاستعمار .

في مطلع سنة 1955 أعلنت الإدارة الاستعمارية عن عزمها تنظيم مسابقة لاكتتاب معلمين للغة العربيةفي المدارس النظامية الفرنسية المنتشرة في بلاد شنقيط في مدينة سان لويس (اندر ) عاصمةالمستعمرة بعد أن كادتْ تلك الوظيفة تكون حكراً على بعض الجزائريين المستجلبينَ من " خارج الحدود".
انتشر الخبر بين الناس كالنار في الهشيم و تداعى إلى مدينة انرْ سائر  المثقفين من كل مكان و خاصةمنهم طلاب المحاضر فدفعوا طلباتهم بأعداد كبيرة  إلى الجهة المختصة في الأجل المرسوم.
و جرى تنظيم المسابقة يوم 5 مايو 1955و أرسلت أوراق الامتحان إلى باريس ليتم تصحيحها هناك فيتلك المؤسسة العمومية ذات الطابع العلمي و الثقافي و المهني المسماة " المعهد الوطني للغات والحضارات الشرقيةو المعروفة اصطلاحًا باسم " ´Langues O .
و استغرق التصحيح ثلاثة أشهر كاملة و جميع سكان المستعمرة ينتظرون النتائج على أحر من الجمر.و لكن حديث الساعة ظل يدور طوال كل تلك الفترة حول ذلك الشاب السباعيّ المترشح حديث عهدبالمغرب الأقصى حيث وُلِدَ و نشأ .لم يكن  المشفقون على هذا الفتى من أبناء عمومته و الحريصون علىسمعته و سمعة القبيلة من بعده يتوسمون فيه  من العلم و المعرفة ما يؤهله للترشح لذلك المنصب الخطيرإلى جانب هذه الكوكبة من العلماء الموهوبين.و لكن كل محاولات هؤلاء في ثني صاحبهم  عن تلك"المغامرة " العجيبة باءت بالفشل و هم على يقين راسخ أنه لن يجلب لهم من ذلك الترشح سوى العار والشنار . يقول محمدن بن سيد ابراهيمْ رحمه الله : " لا زال الوجهاء البارزون من جماعة الحل و العقدمن جماعتنا  يلحون عليه في التراجع و يستعطفونه و يُغرونه بافتتاح أكبر المتاجر و لكن أبى صاحبُنَاإلاَّ  أن يخوض تلك المنافسة الخاسرة من وجهة نظرنا الخاصة ". و لا زال القوم يتوجسون خيفةً من تلكالنتائج و عواقبها الوخيمة ، و يتجاهلون ما يسمعونه أو يرونه عند الغير من أمارات  السخرية و الغمز واللمز حتى إذا جاءت البشارة المدوية على لسان سيد المختار ولد عالِ انچايْ نقلاً عن صديقه الحميمالمختار ولد دادَّاه القادم لتوه من العاصمة الفرنسية .
جاء الأستاذ المختار بن داداه من فرنسا بالخبر اليقين عن نتائج المسابقة و إن كان غيرَ رسميٍّ . جاءيحمل معه لائحة الناجحين الأبع عشرة (14) التي زودته بها لجنة الامتحانات الفرنسية التي قالت لهكذلك إنها لن تكون نهائية إلا بعد صدورها في الجريدة الرسمية لإفريقيا الغربية الفرنسية.و لكن دهشةالناس كانتْ كبيرة عندما علموا أن الرقم الأول الذي يتصدر الناجحين ليس سوى ذلك الشاب السباعيَّالطموح  مَتِينِ الرَّأْسِ " المسمَّى عبد الوهاب ولد الشيگر رحمه الله.و من هنا بدأ الناس يتساءلون عنالسر في هذا  التفوق الفائق على العلماء ، فإذا الشاب المتواضع درس في محاضر السوس في جنوبالمغرب  حيث يكمن النبوغ المغربي في أصدق تجلياتهعندها فقط ، عُرِفَ السبب فزال العجبْ و انقلبالتشاؤم تفاؤلاً و الإحباط أملاً و التوجسُ فخراً و اعتزازاً بذلك الابن البار الذي يجسد عبقرية قومه أينماحلوا و حيثما ارتحوا !
و عموماً فقد كانت فرحة جميع الناس عارمةً بنجاح هؤلاء  البداة الصحراويين الذين أفضتْ بهمدراساتهم المحظرية الأصيلة إلى توظيف رسميٍّ يدرُّ عليهم من الخزينة الفرنسية أرزاقاً يستعينون بهاعلى نوائب الدهرِ و تفتح أمامهم آفاقًا جديدة في هذه الحياة العصرية الجديدة التي يلجونها بغتةً دونسابق إنذار .
و لم ينتظر القوم كثيرًا حتى أعلن الحاكم الفرنسي عن وصول عدد الجريدة الرسمية  المتضمن النتائجالنهائية للمسابقة و ذلك على النحو التالي :
التاريخ : 1 يوليو 1955 - يعتبر ناجحين نهائياً في مسابقة اكتتاب معلم اللغة العربية (دورة 5 مايو ) المترشحون التالية أسماؤهم مرتبة حسب الاستحقاق :

Date: 1 Juillet 1955-Sont déclarés définitivement admis à l’examen pour le recrutement de moniteur d’arabe (session du 5 mai 1955) , les candidats ci-après désignés par ordre de mérite :

1- عبد الوهاب الشيگر (سان لويس؛
2- محمد عبد الرحمان ولد يحظيه (بن عبد الودود )- بو تلميت
3- البراء ولد ألمين سيدي (أولاد سيد الفاللِّ )- المذرذرة ؛
4- سيدي محمد فال ولد سيديا ( بو تلميت)؛
5- أحمد سالم ولد باگَّا ( إدودنْيقبْ)- المذرزرة؛
6_ ابراهيمْ (شغالي ولد أحمد محمود (أغلال شنقيط)-أطار ؛
7- الشيباني ولد محمد ولد أحمد (النجمريّ) -كيهيدي ؛
8- الدنبجه ولد معاويه ( حلةُ أربعين جواداً ) - بوتلميتْ ؛
9- الطيب ولد بلاَّلْ ( والدُ محمد فال رئيس اللجنة الانتخابية )-ألاگْ ؛
10- سيدي محمد ولد آبَّ (المذرذره)؛
11- المختار ولد محمد ( سان لويس)؛
12- موسى ولد سيدي الشيخ ( ألاگْ)؛
13- محمد ولد حبيْنيألاگْ )؛
14- عبد الله ولد الشيخ المحفوظ (بن بيهْ ) حفظه الله (تمبدغه).

و يذكرني هذا الترتيب قول العلامة امحمد بن أحمد يوره مرةً عندما رفض رفضًا باتًا إمامة الصلاة بقومحاولوا أن يرغموه عليها إرغاماً فقال بالحسانية و بجذبه الطريف المعهود : " الإمام ألاَّ إمامْ يسْوَ عادْاللَّوْرَ أ يسْوَ عَادْ الْگِدَّامْ " فسارت مثلًا سيَّاراً يسير به الركبان في كل زمان و مكان .
هذا و بعد اكتمال الإجراءات الإدارية تم تحويل المعلم المتفوق  عبد الوهاب الشيگر  إلى المدرسةالابتدائية في المجرية في تگانتْ في السنة الدراسية 1955-1956 و كانت تلك فرصة له عظيمة ليسلتدريس اللغة العربية فحسبْ و إنما ليتعلم  هو نفسه اللغة الفرنسية من خلال دفاتر و دروس ابنه الطفلسيدي محمد المسجل في السنة الأولى من المدرسة الابتدائية!و كان من تلامذة المدرسة آنذاك طلابنابهون  منهم  المصطفى ولد اعبيْدْ الرحمان و الدكتور سيدي ولد كيطكاط و غيرهم كثير .
و يبدو أن تعلُّمَ اللغة الفرنسية كان طموحاً مشتركاً بين صاحبنا و بعض زملائه من تلك الدفعة منالمعلمين أينما كانت مواقعهمْ في لائحة الناجحين.ذلك أن صديقنا سعادة السفير محمد محمود بن بيَّهحدَّثني أن والده مولانا العلامة الشيخ عبد الله بن بيهْ ابَّان زيارته الأخيرة لانواكشوط زاره السيد محمذنبابَ بن امَّدْ (افَّالْ بابَ علماً ) و عرَّفه على نفسه قائلاً : " هلاَّ تذكر إذْ كنت أنا و أنتَ معلميْن في مدرسةتمبدغه الابتدائية ، و كنتَ تنضمُّ إلى تلامذتي في القسم لتحضر إلى جانبهمْ درسَ اللُّغة الفرنسية كماكنتُ أنا في المقابل أفعل ذاتَ الشيءِ بالنسبة لدروسكَ أنت  باللغة العربية ؟!
و نعود إلى الأستاذ عبد الوهاب ولد الشيگر لنقول إنه لم يلبث أن استدعاه المختار بن دادَّاه (بإيعاز منالمختار بن حامد ) فعمل معه في اندر مديرًا للإعلام مشرفاً على أول جريدة رسمية تصدر باللغتين تحملاسم  موريتانيا ".و خلال تلك الفترة شارك في تنظيم مؤتمر ألاگْ المشهور و اضطلع فيه بمهمةالترجمة بصورةٍ بهرت المؤتمرين.
و يبدو  أن عبد الوهاب قد اكتسب من اللغة الفرنسية  و بتلك الطريقة آنفة الذكر ، ما خوله بأن ينجحلاحقاً بجدارة مرة أخرى  ، في مسابقة تم تنظيمها  سنة 1961 في انواكشوط لدخول  معهد الدراساتالعليا لما وراء البحار في باريس.
L’Institut des hautes études d’outre-mer 
و قد  تخرج عبد الوهاب من تلك المؤسسة  إداريًا مع دفعة منها السيدان يحيى ولد منكوس و مولايامحمدْ حفظهما الله ، فلبس بذلة السلطات الإدارية و لكنه لم يمارس تلك الوظيفة على الصعيد الميدانيلأن الرئيس المختار عينه فور عودته مديرًا  للإذاعة الوطنية.و لكن العلاقات سرعان ما ساءت بين الرجلينلأسباب تتعلق بالتسيير على حد القول المعلن رسمياً و بالسياسة على حد قول آخرَ .
و مهما كان السبب إدارياً أو سياسيًا ، فقد زُجَّ بالمعنيِّ في سجن بيله في لكصر سنة 1967 و لم يخرجمنه إلا سنة 1973.و في غيابة السجن ، استأنس المعنيُّ في فترات متفاوتة بمرور أصدقاء له مثل أحمدبابَ ولد أحمدْ مسكه و وانْ بيرانْ مامدو و هيبه ولد همديِ.و في السجن كذاكَ استقبل عبد الوهابصديقيْن آخريْنَ هما : المرحوم محمدن ولد حامدن رحمه الله و الأستاذ محمد يحظيه ولد ابْرَيْدْ  اللَّيْلحفظه الله عندما زاراه زيارة خاطفةً مأذونة فأقنعاهُ إقناعاً بأن يقبل الرئاسة الشرفية لنقابة حرة تمإنشاؤها آنذاك للدفاع عن حرية الصحافة و التعبير كردة فعل قوية على ما اعتبره المؤسسون اختزالًا  للحريات النقابية المتشعبة في اتحاد العمال الموريتانيين التابع للحزب الواحد "حزب الشعب ".
 هذا و ما إن خرج عبد الوهاب من السجن حتى ضرب صفحاً عن المخزن و إشكالاته و مارس صنوفاًمن التجارة لم تدرَّ عليه من الربح بقدر ما يطمح إليه فانسلخ منها و شدَّ الرحال إلى الخارج فتردد بينفرنسا و ليبيا و السنغال . و لا يزال يعلق بذهني موضوع اختراعٍ له خارق يتعلق بتطويع و تطوير الآلةالكاتبة لحروف اللغة العربية!كما أنني لا أزال أتذكر مقالاً له منشورًا في مجلة " الوحدة " اللِّيبية التييرأس تحريرها الصحفي و الدبلواسيُّ الليبي المشهور محمد سعيد الگشَّاط الذي التقاه ابَّان إقامتهالجبرية في أطار إبَّان زيارته لبلادنا سنة 1971.
و في سنة 1978 وقع الانقلاب العسكري على الرئيس المختار ولد داداه ، فعاد عبد الوهاب ولد الشيگرإلى موريتانيا ، و عقد اتصالات مع الحكام العسكريين الجدد كان من نتائجها أن انتدب باقتراح رسميٍّمن موريتانيا في مطلع الثمانينات مديراً مساعداً مكلفاً بالإتصال لممثل الجامعة العربية في دكارعاصمة السنغال.و في تلك الفترة توطدت صلته بالوزير الأول السنغالي الأسبق مامدو چَا الذي كانيصفه بالرجل المتديّن إلى أقصى حدٍّ.
و خلال وجود الرجل في السنغال و بموجب عمله في الجامعة العربية ، سرعان ما اتخذ بعيد استلامهالعمل  سنة 1980 مبادرة طيبة بإنشاء رابطة الكتاب و المثقفين السنغاليين باللغة العربية و واكبها فينشاطاتها الداخلية و الخارجية المتعاقبة مدة إقامته هناك .
و لا يزال من العلماء و المثقفين السنغاليين إلى ساعة كتابة هذه السطور من يذكرونه بالخير الجزيل ويعترفون له بالجميل .
و في سنة 1984 انتهت مأمورية عبد الوهاب  فعرضت عليه الجامعة العربية مواصلة العمل معها فيمقرها في تونس و لكنه اعتذر نظراً لتدهور صحته ..
و هكذا عاد عبد الوهاب ولد الشيگر  إلى دفْءِ وطنه موريتانيا و شعبها الوديع ، و استعاد بها حياتهالطبيعية  التي طالما افتقدها و  حنَّ إليها  و بقي تحت عناية أسرته الخاصة  و في حضن ذويه و بينعشيرته الأقربين يتواصل بأريحيته المعهودة مع مختلف أصدقائه و محبيه من كل فئات الشعب إلى أنأسلم روحه الطاهرة إلى بارئها بهدوءٍ يوم 19 مارس 1998 في انواكشوط عن عمر بلغ 73 سنةً (لأنهمولود سنة 1925 في مدينة أطار بولاية آدرار ) ، و دفن في مقبرة لكصر بالعاصمة تغمده الله برحمتهالواسعة .
و بوفاة الأستاذ عبد الوهاب ولد الشيگرْ اشتعلتْ مكتبة علمية كاملة مكتنزة الرفوف متنوعة الموضوعات وانطفأت شعلة من الذكاء المتوقد ، تغمده الله برحمته الواسعة.
و في الختام نطلب من القراء  مساعدتنا في التعريف بهذه النخبة من أهل العلم و المعرفة السباقين إلىتدريس مادة اللغة العربية  عبر المدارس النظامية للمستعمر الفرنسي.

رحم الله السلف و بارك في الخلف.

Commentaires

Posts les plus consultés de ce blog

فصل الغزل و النسيب من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره

الشيخ التراد ولد العباس: قصتي مع الديوان...

فصل الغزل من ديوان العلاَّمة امحمد بن أحمدْ يوره..