في رحاب الأدب. و الإدارة ..على مائدة الاستاذ الخليل النحوي..
في رحاب الأدب. و الإدارة ..
غدرتْ بي مطيتي الحرون الشرود الكنود، فكاد تعذُّر وجود وسيلة نقل خاصة يدفعني الليلة قبل الماضية إلى التخلف مرغما عن حضور مأدبة عشاء طيب حقا أقامها صديقُنا الأستاذ الخليل النحوي في منزله على شرف سعادة سفيرنا في أنقره معالي وزير الداخلية سابقا صديقنا الحميم و رفيقنا في الدرب و أخينا في الله السيد محمدْ أحمدْ ولد محمد الأمين و بعض أصدقائه المقربين..
و تشاء الصدفة السعيدة أن ألقى صديقا مسيَّرا لا مخيرًا فيوصلني مشكورا مأجورا إلى وجهتي المرسومة ..كان رئيس مجلس اللسان العربي يستخدم ذينك المصطلحيْن في السبعينيات و يعني بالمُسَيَّر مالك السيارة و بالمخيَّر من يتخيَّر مركبه من بين سيارات الأجرة المنتشرة في الشوارع و لم تكن معبدة آنذاك بالقدر الذي أصبحت عليه في ما بعدُ. ..و من طرافة لمرابط محمد سالم بن عدود رحمه الله أنه ربما داعب الزائر الجديد من أهل تيشيت فسأله قائلا: أأنت مؤمن أم مسلم؟ للتمييز بين الأسرتين الفاضلتين القاطنتين بها: أبناء الشريف عبد المؤمن و أبناء الفقيه محمد مسلم!
أوصلني صديقي المسير إذن حيث تقام الدعوة في لاسبلماس و ما إن رآه الأستاذ الخليل حتى أقبل عليه معانقا بشدة و استقبله بفرحة عارمة و آلى عليه أن يدخل و تمثل بقول نزار قباني: ما أطيب اللقيا بلا ميعاد! الذي قال إنه من قطعة كانت موضوع مادة الأدب في أول بكالوريا موريتانية و قد شارك فيها .هما إذن صديقان حميمان جمعتهما دكار ردحا من الزمن أيام كانا موظفين بها في هيئتين أجنبيتيْن فآختهما كما آختْ مُراكش من قبلُ صديقين آخرين من أصدقاء الأستاذ الخليل الطلاب هما السيد ولد أحمدْ ولد ابَّاه و محمدْ التروزي فقال في ذلك أظنه سنة 1979:
السيِّدُ المفضال نعم السيِّد == و زميله نعم الزميل محمدُ
خلان قد آختْهما مُرَّاكشٌ == فمحمدٌ هذا و هذا سيِّد!
لحسن الحظ إذن و كما "سخّرتُ" في الذهاب صديقي و جاري محفوظ ولد ابراهيم بالمصطلح الإداري كما قال الخليل ، فها هو خليله الخليل يحتجزه إلى نهاية الدعوة فيسخره ليَ الله إذْ ينقلب إحراجي له إحسانا عليه فلا أقبل أن أسلمه - و هو الزميل الجليل- حتى يرى سبيله فننتهجه سالكا إن شاء الله في طريق العودة إلى حيِّنا سالمين غانميْن.
دخلنا ثلاثتنا إلى ذلك المنزل العامر إن شاء الله و لم أكن في فنائه غمرا و صعدنا سلاليم ألفتْ الصعود إلى كل نحوٍ تنحو قنن العلياء و المجد الطارف و التليد ، و نزلنا في الطابق العلوي مُنزلا طيبا مباركا فوجدنا أمامنا مجلسا من علية قوم أول ما طالعني منهم هو الطلعة البهية لأستاذنا الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف فما رأيت أن أصفهم إلا بما وصف هو به زملاءه في الدراسة في رحلته إلى فرنسا و بروكسل حيث قال إنهم كلهم " من الطراز الأول إباءً و فتوة و شهامة " و أنشد فيهم كما أنشد هو في أصحابه قول الشاعر:
و قد سامرت سمارا فتوا == إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على حسب فداسوا == أديم الفرقدين بأخمصين
إذْ سرعان ما اكتملت مراسيم السلام فتبينتُ أنَّ القوم ما بين أديب ذائق أو دبلوماسي سابق أو لاحق أو خبير فائق أو وجيه صادق..فمن الأدباء الأستاذان الخليل النحوي و محمد فال ولد عبد اللطيف و من السفراء السابقين: أحمدو بن الشيخ الحضرامي والمختار ولد داهي و غيرهم ، و من السفراء اللاحقين : محمد أحمد بن الأمين و عبد القادر بن محمد ، و من الخبراء محفوظ ولد ابراهيم و من الوجهاء : محمد محمود ولد السالك لَكْهَلْ علمًا و الشيخ ولد الإمام.
أما نحن المتأخرين عن الركب فقد أدركنا السابقين إلى المجلس يتحدثون في الأدب و ابن عبد اللطيف يرد على أسئلة البعض حول مواضيع متفرقة تتعلق بمحاضرته أول أمس في جامعة شنقيط العصرية عن " مفضليات الضبي " و عن كتابه الصادر مؤخرا حول " أشهر النعمة و شهور النقمة " و عن بقية مؤلفاته المطبوعة و غير المطبوعة..و توقف القوم و منهم الإداريون عند تجربة الرجل في الإدارة و كيف انتقل من قطاعه الأصلي في وزارة المالية و هو الإداري المالي الصرف إلى العمل في وزارة الداخلية.
و دار الحديث عن عمله في الإدارة الإقليمية حيث شغل وظيفة الوالي المساعد في ألاك مع الوالي الرئيس الأسبق محمد المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله و كتب كتابا تحت ذلك العنوان " الوالي المساعد " ، ثم عين حاكما في مقامه و كتب كتابا بذات العنوان " حاكم مقامه " و ختم تجربته في الداخل بالعمل واليا مساعدًا من جديد في الحوض الشرقي فلم يمضِ فيها سوى ستة أشهر قبل أن يفقد منصبه و يخلد إلى الفراغ فترة طويلة خسرتْ فيها الإدارة من جهده و تجربته الشيءَ الكثير و لكن نتيجتها كانت كبيرة على الفكر و الأدب إذ أنتج فيها الشعر البديع و صاغ الأدب الرفيع و منه كتابه المستوحى من تلك الفترة و الموسوم باسم " أشهر النعمة و شهور النقمة " .
و في سياق الكلام عن خصوصية وظيفة الوالي المساعد ساق الوالي السابق أحمدو بن الشيخ الحضرامي أمثلة طريفة تلمس القوم مصداقها في نثر محمد فال و شعره الذي أنشد لهم منه قوله:
ﺃﺗﻴﺖ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺤﻮﺽ ﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻭﺍﺭﺩ == ﻭﺍﻥ ﻧﺰﻳﻞ ﺍﻟﺤﻮﺽ ﻣﻨﻲ ﻟﻮﺍﺟﺪ
ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻮﺽ ﻗﻮﻡ ﺃﻋﺰﺓ == ﻛﺮﺍﻡ ﻋﻠﻮﺍ ﻛﻞ ﺍﻟﻜﺮﺍﻡ ﺃﻣﺎﺟﺪ
ﻫﻢ ﺟﻨﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﺄﻣﺎ ﺗﺮﺍﺑﻬﻢ == ﻓﺨﺼﺐ ﻭﺃﻣﺎ ﺷﻌﺒﻬﻢ ﻓﻤﺠﺎﻫﺪ
ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻓﻴﻬﻢ ﺛﺎﻟﺜﺎ ﻟﺜﻼﺛﺔ == ﺃﻗﺎﻧﻴﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮﻥ ﻭﺍﺣﺪ
ﻭﻟﻢ ﺗﺮ ﻋﻴﻨﻲ ﻛﺎﻟﻤﺴﺎﻋﺪ ﻋﺎﻃﻼ == ﺗﻤﺮ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺪ ﻗﺎﻋﺪ
ﻫﻮ ﺍﻟﻮﺛﻦ ﺍﻟﻤﻨﺼﻮﺏ ﻟﻴﺲ ﺑﻨﺎﻓﻊ == ﻭﻻ ﺿﺎﺋﺮ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﺎﺑﺪ
ﻳﻨﺎﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻘﺮﻳﺮ ﺇﻥ ﺣﺎﻥ ﺻﻮﻏﻪ == ﻭﻳﺪﻋﻰ ﺇﻟﻲ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺇﻥ ﺟﺎﺀ ﻭﺍﻓﺪ
ﻓﻴﻨﻔﻊ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﻭﺫﺍ ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻪ == ﺇﺫﺍ ﻋﻈﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻗﻞ ﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺪ !
و بذلك تذكرنا قوله في مقامه و ما أظنه إلا قاله خارج دائرة حدوده الترابية :
لا تأتِ قوما إن أتيتَ بيوتهم == أُلفيتَ بين مباركٍ و مرابض
قد قدموا لي يوم جئتُ أزورهم == قدَحًا مَلَوْهُ من الشراب الحامض
من مروب مرّتْ عليه ثلاثةٌ == خلطوه بالماء السخين الفائض
لم أدرِ مذ خلطوه هل جاؤوا به == من منهل أو من غدير غامض
أو من ندًى أو ذاب بعد جموده == أو كان سؤر بهيمة أو حائض!
هذا و ما كان للأمين العام لوزارة الإتصال ذات " الوصاية " القديمة على صحيفة الشعب اليومية أخينا المختار ولد داهي أن يترك موضوع أدب ابن عبد اللطيف يجوز دون أن يتطرقوا فيه إلى نثره السهل الممتع و مقالاته الأسبوعية في ركن المنتدى المنشور في الصفحة الأخيرة من الصحيفة..
و في هذا المجال تحدث الأستاذ محمد فال عن صدور مجموعتين من هذه المقالات صيغت كل منهما في شكل كتاب
و ذكر مجموعة ثالثة في طريق النشر تحت عنوان " الفستق المقشر " فاستعجل الحاضرون معه صدورها ضمن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين..
و هنا تدخلتُ فذكرتُ للحاضرين مسألتيْن أولاهما تتعلق بأصل فكرة كتابة هذه المقالات من حيث المبدأ و الثانية تتعلق بإنشاء الرابطة الموريتانية للآداب و الفنون.أما بخصوص فكرة كتابة هذه المقالات فكنت أول من اقترحها على مدير المؤسسة فقبلها و طالبني بإقناع الأستاذ محمد فال ففعلت..قال الأستاذ محمد فال مجاملا: و هل يسُوغ لي أن أعرض عن عروضك؟!.
و أما بخصوص الرابطة فقلت إن الأستاذ الخليل حدثني مرة و هو في المستشفى الوطني في منتصف السبعينات و قد أمضى فيه زمنا طويلا بعد أن دخله إثر حادث سير خطير على طريق الأمل و هو قادم من برينه. قال إن أكثر ما أنهك قواه إبان وقوع ذلك الحادث هو مطاردته لرزمة من الأوراق لعبتْ بها الريح يمينا و شمالا فحملتها إلى كل مكان بعد أن تناثرت محتويات الملف الذي كان يحفظها داخله.و بعد جهد جهيد استطاع الأستاذ الخليل أن يستعيد الملف المتعلق بإنشاء الرابطة الموريتانية للآداب و الفنون الذي لم تعد أوراقه بيضاء ناصعة كما عهدها من قبلُ ، و لكنها أصبحت حمراء ملطخة بدمه الزكي المنهمر من أماكن متعددة من جسمه المنهك أولُها وجهه الكريم بعد أن أُصيب بكسور بالغة في داخل المثلث الواقع بين العين و الأنف والأذن.
. و يبرر الأستاذ الخليل مخاطرته تلك بأنه بذل في إنجاز ذلك الملف المعقد من الجهد و الوقت قدرا لا يريد له أن يذهب أدراج الرياح خاصة أن تلك الأوراق المتناثرة في ذلك الظرف العسير لا يُدرك قيمها إلا هو و إذا لم يتداركْها قبل فوات الأوان فإنَّ مصيرها لا محالةَ إلى الضياع المحقق. و باكتمال القصة أومأتُ إلى صاحبها قائلا: أليس الأمر كما رويتُ يا أستاذ؟ فاعترض قائلا: بل ساعدني البعض في اللحاق بتلك الأوراق الشاردة !
و من موضوع الأدب و الأدباء تدرج حديث القوم بانسياب سلس نحو السياسة و الإدارة و ليس بين الفضاءيْن من حدود رادعة مانعة فولجوا عفويا إلى هذا الفضاء الرحب عبر الحديث عن الرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله الذي تطرق إليه الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف و كان مساعده في لبراكنه فبالغ في براعته في الإدارة.
و هنا تحدث أخونا أحمدو بن الشيخ الحضرامي فقال: لما وصل الرئيس المصطفى ولد محمد السالك إلى الحكم تم تشكيل الحكومة و عُيِّن الرائد جدو ولد السالك رحمه الله وزيرًا للداخلية و يبدو أنه تصفح سجل البريد السري " المشفّر" فصادف فيه برقيتيْن سابقتيْن تنذران السلطات العليا في الحكومة السابقة بوقوع انقلاب وشيك إحداهما من مدير الأمن الوطني يحيى ولد عبدي و الثانية من والي النعمه آنذاك انكام ليروان رحمهم الله.أما مدير الأمن فقد أبلغ أن ضباطا من الجيش الوطني يتزعمهم الرائد جدو ولد السالك يزمعون الإطاحة بالنظام في انقلاب وشيك.و أما والي الحوض الشرقي فقد أبلغ بأن الرائد جدو ولد السالك أخبره أثناء مقيل معه في دار الوالي في النعمه أن الجيش يزمع الإستيلاء على الحكم.و كان جدو يخضع لعلاج في فرنسا إثر إصابة في حرب الصحراء فمر في طريق العودة بأسرته في الحوض الشرقي فدعاه الوالي ليتناول معه طعام الغداء.
بعد الإطلاع على هاتيْن البرقيتيْن الإستعلاميتين بادر وزير الداخلية إلى إعفاء الرجلين من منصبيْهما و لكنه حرص على استقبال كل واحد منهما في مكتبه على حدة وفاتحهما في الموضوع مبينا خطورة مثل هذا التصرف على حياته. قال يحيى : إن ضميري المهني هو الذي فرض عليَّ أن أبلغ رؤسائي بما آلت إليه قناعتي الشخصية المبنية على جملة من الإستخبارات المؤكدة .و في نهاية اللقاء طالب الوزير بأن يعيده إلى قطاعه الأصلي في التهذيب الوطني لأنه معلم .و أما انكام ليروان فقد قال: السيد الوزير أولا: لقد حدثتموني بخبر الإنقلاب بحضور شخص ثالث، و لو كنا منفرديْن لكنتُ نصحتكمْ. ثانيا: أنتم الآن في منصب وزير الداخلية فهل ترضون أن يطلع أحد معاونيكم على خبر يضر بالأمن و يكتمه عنكم ؟
و في الأسبوع الموالي تم تعيين يحيى ولد عبدي واليا في وادي الذهب كما تم تعيين انكام ليروان واليا في كيدي ماغا و بذلك أعطى جدو ولد السالك رحمه الله أقوى دليل على أنه رجل دولة و صاحب شهامة.
قال الأستاذ الخليل: كان الأستاذ سيد أحمد بن الديْ وزيرا في آخر حكومة للأستاذ المختار بن داداه رحمه الله كما كان سفيرًا في تونس في الفترة التي كان فيها الرئيس المختار مُقيما هناك بعد الإطاحة به، و قد حدثني أنه لقيه مرة فقال له على وجه الدعابة : السيد الرئيس ، ما دمت قد أُبلغت بخبر الإنقلاب قبل وقوعه،فهلاَّ كنت أخبرتنا به نحن الآخرين فنتخذ منه الحيطة لننجو بأنفسنا مما أصابنا من عواقبه ؟! فأجاب الرئيس قائلا: اعتبارا من سنة 1966 ما مرَّ علي الشهرُ أو الشهران قط إلا و حمل إليَّ بريد الإستخبارات نبأَ انقلاب عسكري وشيك!و أردف قائلا باللهجة الحسانية: " اعكبْ كاع أفطن الحمد لله ما اخسر شِ و إلعادْ اخسرْ شِ ما اخسرْ شِ " !
و على ذكر الإستخبارات و الشهامة أورد القوم حكايات طريفة مروية من مصادرها الأصلية.
فبالنسبة للإستخبارات لم يُحظ موضوع وطني في عهد المختار بن داداه من السرية و التكتم بقدر ما حُظي به تأْميم شركة ميفرما إذ لم يتجاوز المسؤولون الذين عُهد إليهم بتسيير ذلك الملف الخطير عدد أصابع اليد الواحدة و من هؤلاء المسؤولين طبعا والي انواذيبُ آنذاك حسني ولد ديدي.و لكن الوالي فوجئ يوما بالحاكم المركزي للمقاطعة ابَّاه ولد ٱلبو رحمه الله يقول له:السيد الوالي لعلكم تفكرون في تأميم شركة ميفرما، ذلك ما أستشفه من بعض اتصالاتكم!
اندهش الوالي من كلام معاونه الأقرب و بادر فأبلغ وزير الداخلية أحمد بن محمد صالح و بسرعة توصل بأمر من رئيس الجمهورية يقضي بإلحاق الحاكم باللجنة السرية المكلفة بالموضوع و مباشرة بعد التأميم تم تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني!
و كمصداق على سرية التأميم أخبرني الأستاذ محمذن بن بابَّاه حفظه الله أن الرئيس المختار بن داداه استدعى أعضاء حكومته في مسكنه في القصر الرئاسي في الساعة الثامنة من صباح اليوم الذي أعلن فيه تأميم ميفرما و فاجأهم بقوله: لقد قررتُ أن أعلن عن تأميم شركة ميفرما في الخطاب الذي سألقيه بعد قليل تحت قبة البرلمان، فإذا كان باستطاعتكم أن تحفظوا عني هذا السر العظيم في الفترة الوجيزة التي تفصلنا عن موعد هذا الخطاب فافعلوا جُزيتم خيرًا ! قال محمذن فدُهش القوم و وجموا كأنَّ على رؤوسهم الطير و بينما نحن كذلك إذ دخل علينا أحد العمال و أخذ يُناولنا الشراب فقلتُ له تلطيفا لذلك الجو العكر: إيتِنا منه يا هذا علَّنا نستسيغ به هذه الحجارة العالقة! فضحك الرئيس و الوزراء و انفرج الجو.
و في ذات السياق روى أحمدو بن الشيخ الحضرامي كذلك أن يربَ ول ٱعْلِ بيْبَ رحمه الله حدثه فقال: كنتُ ابَّان تأميم ميفرما واليا في ولاية آدرار و تتبع لها آنذاك مدينة الزويرات ، و بينما أنا في زيارة إلى وادان إذْ وصلتْني برقية تأمرني بالمجيء فورا إلى انواكشوط فأسرعتُ السير حتى وصلتُ العاصمة ليلا.و في اليوم الموالي سرتُ مغلِّسا إلى منزل وزير الداخلية صديقي أحمد ولد محمد صالح حفظه الله و هو من مواطني الولاية فتناولت معه الفطور والشاي و لم أستطعْ أن أنتزع منه أي كلمة تتعلق بموضوع الإستدعاء ، و يربَ كما هو معلوم من أقدم مفوضي الشرطة في البلاد!.
قال: و لما يئستُ من الظفر منه في المنزل بما يزيل حيرتي و هو صديقي الحميم و رئيسي المباشر الذي استدعاني أصلا، ودَّعتُه و توجهتُ إلى مباني الوزارة و بقيت أنتظره في مكتب الأمين العام حتى إذا وصل و رتب بعض الشؤون الصباحية المستعجلة ، أرسل إلي يطلبني فاستقبلني في مكتبه و من داخل المكتب أخبرني بالقرار الوشيك بتأميم شركة ميفرما و أمرني بالتوجه مباشرة إلى الزويرات حيث يجب أن أبقى إلى أن تكتمل مهمة التأميم. و أصدر إلي توجيهاته المتعلقة بذلك. !
و في مجال الشهامة كذلك حكى أحمدو مرة أخرى راويا عن الديْ ولد براهيم حفظه الله أنه خلال عمله واليا في ولاية الحوض الغربي فوجيء يوما ببرقية إدارية يأمره بموجبها وزير الداخلية بالمجيء فورا إلى انواكشوط .قال: وصلتُ بسرعة إلى العاصمة و أسرعتُ الخطوَ باكرًا إلى منزل صديقي الحميم وزير الداخلية أحمدْ ولد محمدْ صالح فتناولتُ معه الفطور كالعادة و امتنع من أن يحدثني كالعادة عن موضوع الإستدعاء. و غادرتُ منزله متوجها إلى الوزارة فاستفبلي في مكتبه طبقا لمراسيمه الإدارية المعهودة. و من داخل مكتب معالي الوزير تجاذبنا أطراف الحديث الذي تناول كل شيء إلا موضوع الإستدعاء. حتى إذا نضبت المواضيع قال لي بهدوء لستُ أنا الذي يستدعيك إنما يطلبك رئيس الجمهورية المختار ولد دادّاه و رفع سماعة الهاتف و قال للرئيس : لقد وصل الديْ و هو الآن معي في المكتب ثم أومأ إلي بأن أذهب إلى الرئاسة ففعلت..و هنالك استقبلني الرئيس المختار فإذا به يأخذ عليَّ ما وشى به إليه بعضُ المخبرين من خبر تساهل من قِبَلي في حراسة من وُضع هنالك تحت الإقامة الجبرية هو الأمير محمد فال ولد عميْر!
قلت للسيد الرئيس : كنتُ أظن أنكم بتحويلي إلى ولاية الحوض الغربي حيث يُقيم محمد فال بن عمير إقامة جبرية تهدفون إلى التخفيف عنه لا التعنيف عليه ..و لا أخالكم تخافون عليه من أن يهرب إذْ يمنعه من ذلك عاملان اثنان أولهما شهامتُه و الثاني عهده إذْ أنه لن يعمد إلى فعل يُخل بمسؤوليتي الرسمية في حقه.قال: و استرسلتُ في الحديث معه على هذا المنوال حتى إذا ما بلغتُ فيه مبلغًا بدا مقتنعا بلْ شاكرا و ممتنًّا لي بما أوضحتُ له مما كان غائبا عنه من ملابسات الموضوع. قال: و هكذا غادرتُ مكتب السيد الرئيس بعد أن تحقق لي ما كنت أرتجي من قناعته بسلامة منهجي.
و معلوم أن من التسهيلات التي أحيط بها محمد فال ولد عمير منذ مجيء الديْ إلى لعيون أن رفعت عنه الحراسة فصارت زياراته مفتوحةً للخاصة و العامة من الناس على حد سواء و في أي وقت ثم صارَ له معه مجلس أميريٍّ طيب تُدارُ فيه كاسات الشاي بعد العصر من كل يوم.
و من أمثلة الشهامة كذلك ما نقله أحمدو مرة أخرى عن بكار بن أحمدو حفظه الله أنه قال: كنتُ سفيرا لموريتانيا في دكار إبّان وفاة الأمير محمد فال ولد عمير رحمه الله و كان قد أسرَّ إليَّ و هو في المستشفى برغبته في أن يُدفن في مقبرة " تندكسمِّ " إلى جوار لمرابط محمد سالم بن ألُمَّا إذا أراد الله وفاته في مرضه ذلك في دكار. و لمّا توفي هنالك أبرقتُ إلى الوزارة أطلب السماح لي بتنفيذ تلك الوصية فلم يؤذن لي في ذلك بحجة أن دكار أصبح مدفنا للبيظان مذ صار به الشيخ التراد بن العباس رحمه الله..
فما كان مني إلا أن استأجرتُ على نفقتي الشخصية طائرة كلْوَدَكْ المشهورة في رحلة تحت جنح الظلام مستعجلة ذهابا و إيابا إلي انواكشوط..و من هنالك ذهبت مباشرة إلى منزل وزير الداخلية آنذاك أحمدْ بن محمدْ صالح حيث علمت بوجود الرئيس و عقيلته فصادفت الجماعة يستعدون للصعود مع السلم نحو الطابق العلوي من المنزل كأنما يودون الإنزواء به لأمر خاص .و بعد سلام خاطفٍ انفردت مع السيد الرئيس و شرحتُ له موضوع الوصية و طلبتُ منه الإذن في تنفيذها..فأومأ إلى أحمدْ بن محمد صالح أن يلتحق بنا و قال له: أسمعتَ ما يطلبه منا سعادة السفير؟ ألا يطرح عليك مشاكل أمنية؟ قال وزير الداخلية : لا..لا يطرح أي مشكلة أمنية!عندئذ أذن لي الرئيس في نقل جثمان الأمير من دكار إلى موريتانيا فشكرته و ودعته فواصل مسيره صاعدًا مع السلم .أما أنا فقد بقيت مع أحمد بن محمد صالح برهة فقال لي: إن شئتَ تناولتَ معنا طعام العشاء فهو طبق خاص أعده الليلة على شرف هؤلاء الضيوف " الخِلْطَ " من تلك اللحوم المستجلبة من البادية التي تعلم يعني " الْحمْ لحبارْ"!.
فاعتذرتُ للوزير و انطلقتُ مسرعا في طريق العودة إلى المطار حيث تقبع الطائرة ..و في الطريق عرجتُ بصورة خاطفة على بعض الأصدقاء في الحي السكني الإداري في ابلوكات..و هنالك لقيت صديقي يعقوب بن أبي مدين رحمه الله ففهمتُ من حاله و مقاله أنه يرغب في الذهاب إلى دكار و يبتغي إليه وسيلةً سريعة للنقل فعرضتُ عليه مرافقتي فقبل مسرورا.
و هكذا غادرنا انواكشوط ليلا و عدنا إلى دكار سالمين غانمين بمطلوبنا و مباشرة بعد اكتمال الرحلة الجوية بدأنا ترتيبات السفر البري حيث جهزنا سيارة رباعية الدفع فوضعنا الجنازة في ركنها الخلفي و ركب يعقوب في مقدمتها وودعناه و انطلق الموكب على بركة الله.
هذا بعض ما علق بذاكرتي من أهم تلك الحكايات الغنية الماتعة الممتدة على ثلاث ساعات متتالية. و كان أقلنا حظا في الرواية من كنا نود أن يكون أوفرنا حظا فيها..ذلك أن مُضيفنا آثر ضيوفه في كل شيء إلا السيادة فاستأثر بها لنفسه كاملة غير منقوصة، إذ لم يلبث يخدمهم هو نفسه بيده من بداية المشوار إلى نهايته عند منتصف الليل فكان سيدَ القوم حقا إذ هو خادمهم بكل تواضع و إخلاص.
و كما شغل نفسه بخدمته إيانا أراد كذلك أن يشغلنا بمائدته الفاخرة الغنية المتشعبة ذات الألوان المختلفة و قد تبوّأ منها الكسكس و العيش مكانة الصدارة و ما أظنهما فيها يتكافآن لو أنهما أعادا الكرة فانعقدتْ بينهما المناظرة من جديد إذ قد ألبس العيش ليلتئذ حُلة بيضاء ناصعة ما عهدناها لديه من قبل فارتختْ عضلاته و تغيرت سماته و حُطَّ من قَدره لا قِدْره و نيل من جسمه الرخو بالملعقة الحديدية البليدة بدل اليد الناعمة الذكية المعودة على التعامل معه بما يناسب الزمان و المكان.
ولكن بالرغم من بروزه في حلته المتواضعة تلك،فقد استقطب من اهتمام الحاضرين ما لم يستقطبه غيره من الوجبات المنافسة رغم حضورها اللافت للأنظار و ذلك بحضور شهود عدول من أهلها منهم الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف و زعيم الفريق المنافس الوزير عبد القادر بن محمد الذي لم يرَ بدَّا من أن يُصيبَ منه مُدَّا.. و الله ولي التوفيق ..
و تشاء الصدفة السعيدة أن ألقى صديقا مسيَّرا لا مخيرًا فيوصلني مشكورا مأجورا إلى وجهتي المرسومة ..كان رئيس مجلس اللسان العربي يستخدم ذينك المصطلحيْن في السبعينيات و يعني بالمُسَيَّر مالك السيارة و بالمخيَّر من يتخيَّر مركبه من بين سيارات الأجرة المنتشرة في الشوارع و لم تكن معبدة آنذاك بالقدر الذي أصبحت عليه في ما بعدُ. ..و من طرافة لمرابط محمد سالم بن عدود رحمه الله أنه ربما داعب الزائر الجديد من أهل تيشيت فسأله قائلا: أأنت مؤمن أم مسلم؟ للتمييز بين الأسرتين الفاضلتين القاطنتين بها: أبناء الشريف عبد المؤمن و أبناء الفقيه محمد مسلم!
أوصلني صديقي المسير إذن حيث تقام الدعوة في لاسبلماس و ما إن رآه الأستاذ الخليل حتى أقبل عليه معانقا بشدة و استقبله بفرحة عارمة و آلى عليه أن يدخل و تمثل بقول نزار قباني: ما أطيب اللقيا بلا ميعاد! الذي قال إنه من قطعة كانت موضوع مادة الأدب في أول بكالوريا موريتانية و قد شارك فيها .هما إذن صديقان حميمان جمعتهما دكار ردحا من الزمن أيام كانا موظفين بها في هيئتين أجنبيتيْن فآختهما كما آختْ مُراكش من قبلُ صديقين آخرين من أصدقاء الأستاذ الخليل الطلاب هما السيد ولد أحمدْ ولد ابَّاه و محمدْ التروزي فقال في ذلك أظنه سنة 1979:
السيِّدُ المفضال نعم السيِّد == و زميله نعم الزميل محمدُ
خلان قد آختْهما مُرَّاكشٌ == فمحمدٌ هذا و هذا سيِّد!
لحسن الحظ إذن و كما "سخّرتُ" في الذهاب صديقي و جاري محفوظ ولد ابراهيم بالمصطلح الإداري كما قال الخليل ، فها هو خليله الخليل يحتجزه إلى نهاية الدعوة فيسخره ليَ الله إذْ ينقلب إحراجي له إحسانا عليه فلا أقبل أن أسلمه - و هو الزميل الجليل- حتى يرى سبيله فننتهجه سالكا إن شاء الله في طريق العودة إلى حيِّنا سالمين غانميْن.
دخلنا ثلاثتنا إلى ذلك المنزل العامر إن شاء الله و لم أكن في فنائه غمرا و صعدنا سلاليم ألفتْ الصعود إلى كل نحوٍ تنحو قنن العلياء و المجد الطارف و التليد ، و نزلنا في الطابق العلوي مُنزلا طيبا مباركا فوجدنا أمامنا مجلسا من علية قوم أول ما طالعني منهم هو الطلعة البهية لأستاذنا الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف فما رأيت أن أصفهم إلا بما وصف هو به زملاءه في الدراسة في رحلته إلى فرنسا و بروكسل حيث قال إنهم كلهم " من الطراز الأول إباءً و فتوة و شهامة " و أنشد فيهم كما أنشد هو في أصحابه قول الشاعر:
و قد سامرت سمارا فتوا == إلى المجد انتموا من محتدين
حووا أدبا على حسب فداسوا == أديم الفرقدين بأخمصين
إذْ سرعان ما اكتملت مراسيم السلام فتبينتُ أنَّ القوم ما بين أديب ذائق أو دبلوماسي سابق أو لاحق أو خبير فائق أو وجيه صادق..فمن الأدباء الأستاذان الخليل النحوي و محمد فال ولد عبد اللطيف و من السفراء السابقين: أحمدو بن الشيخ الحضرامي والمختار ولد داهي و غيرهم ، و من السفراء اللاحقين : محمد أحمد بن الأمين و عبد القادر بن محمد ، و من الخبراء محفوظ ولد ابراهيم و من الوجهاء : محمد محمود ولد السالك لَكْهَلْ علمًا و الشيخ ولد الإمام.
أما نحن المتأخرين عن الركب فقد أدركنا السابقين إلى المجلس يتحدثون في الأدب و ابن عبد اللطيف يرد على أسئلة البعض حول مواضيع متفرقة تتعلق بمحاضرته أول أمس في جامعة شنقيط العصرية عن " مفضليات الضبي " و عن كتابه الصادر مؤخرا حول " أشهر النعمة و شهور النقمة " و عن بقية مؤلفاته المطبوعة و غير المطبوعة..و توقف القوم و منهم الإداريون عند تجربة الرجل في الإدارة و كيف انتقل من قطاعه الأصلي في وزارة المالية و هو الإداري المالي الصرف إلى العمل في وزارة الداخلية.
و دار الحديث عن عمله في الإدارة الإقليمية حيث شغل وظيفة الوالي المساعد في ألاك مع الوالي الرئيس الأسبق محمد المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله و كتب كتابا تحت ذلك العنوان " الوالي المساعد " ، ثم عين حاكما في مقامه و كتب كتابا بذات العنوان " حاكم مقامه " و ختم تجربته في الداخل بالعمل واليا مساعدًا من جديد في الحوض الشرقي فلم يمضِ فيها سوى ستة أشهر قبل أن يفقد منصبه و يخلد إلى الفراغ فترة طويلة خسرتْ فيها الإدارة من جهده و تجربته الشيءَ الكثير و لكن نتيجتها كانت كبيرة على الفكر و الأدب إذ أنتج فيها الشعر البديع و صاغ الأدب الرفيع و منه كتابه المستوحى من تلك الفترة و الموسوم باسم " أشهر النعمة و شهور النقمة " .
و في سياق الكلام عن خصوصية وظيفة الوالي المساعد ساق الوالي السابق أحمدو بن الشيخ الحضرامي أمثلة طريفة تلمس القوم مصداقها في نثر محمد فال و شعره الذي أنشد لهم منه قوله:
ﺃﺗﻴﺖ ﻟﻬﺬﺍ ﺍﻟﺤﻮﺽ ﻣﺎ ﺃﻧﺎ ﻭﺍﺭﺩ == ﻭﺍﻥ ﻧﺰﻳﻞ ﺍﻟﺤﻮﺽ ﻣﻨﻲ ﻟﻮﺍﺟﺪ
ﻋﻠﻰ ﺃﻥ ﺃﻫﻞ ﺍﻟﺤﻮﺽ ﻗﻮﻡ ﺃﻋﺰﺓ == ﻛﺮﺍﻡ ﻋﻠﻮﺍ ﻛﻞ ﺍﻟﻜﺮﺍﻡ ﺃﻣﺎﺟﺪ
ﻫﻢ ﺟﻨﺔ ﺍﻟﺪﻧﻴﺎ ﻓﺄﻣﺎ ﺗﺮﺍﺑﻬﻢ == ﻓﺨﺼﺐ ﻭﺃﻣﺎ ﺷﻌﺒﻬﻢ ﻓﻤﺠﺎﻫﺪ
ﻓﺄﺻﺒﺤﺖ ﻓﻴﻬﻢ ﺛﺎﻟﺜﺎ ﻟﺜﻼﺛﺔ == ﺃﻗﺎﻧﻴﻢ ﻣﻨﻬﺎ ﻗﺪ ﺗﻜﻮﻥ ﻭﺍﺣﺪ
ﻭﻟﻢ ﺗﺮ ﻋﻴﻨﻲ ﻛﺎﻟﻤﺴﺎﻋﺪ ﻋﺎﻃﻼ == ﺗﻤﺮ ﺍﻟﻘﻀﺎﻳﺎ ﻭﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺪ ﻗﺎﻋﺪ
ﻫﻮ ﺍﻟﻮﺛﻦ ﺍﻟﻤﻨﺼﻮﺏ ﻟﻴﺲ ﺑﻨﺎﻓﻊ == ﻭﻻ ﺿﺎﺋﺮ ﻟﻮ ﻛﺎﻥ ﻓﻲ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﻋﺎﺑﺪ
ﻳﻨﺎﺩﻯ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﺘﻘﺮﻳﺮ ﺇﻥ ﺣﺎﻥ ﺻﻮﻏﻪ == ﻭﻳﺪﻋﻰ ﺇﻟﻲ ﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﺇﻥ ﺟﺎﺀ ﻭﺍﻓﺪ
ﻓﻴﻨﻔﻊ ﻓﻲ ﻫﺬﺍ ﻭﺫﺍ ﻏﻴﺮ ﺃﻧﻪ == ﺇﺫﺍ ﻋﻈﻢ ﺍﻟﻤﻄﻠﻮﺏ ﻗﻞ ﺍﻟﻤﺴﺎﻋﺪ !
و بذلك تذكرنا قوله في مقامه و ما أظنه إلا قاله خارج دائرة حدوده الترابية :
لا تأتِ قوما إن أتيتَ بيوتهم == أُلفيتَ بين مباركٍ و مرابض
قد قدموا لي يوم جئتُ أزورهم == قدَحًا مَلَوْهُ من الشراب الحامض
من مروب مرّتْ عليه ثلاثةٌ == خلطوه بالماء السخين الفائض
لم أدرِ مذ خلطوه هل جاؤوا به == من منهل أو من غدير غامض
أو من ندًى أو ذاب بعد جموده == أو كان سؤر بهيمة أو حائض!
هذا و ما كان للأمين العام لوزارة الإتصال ذات " الوصاية " القديمة على صحيفة الشعب اليومية أخينا المختار ولد داهي أن يترك موضوع أدب ابن عبد اللطيف يجوز دون أن يتطرقوا فيه إلى نثره السهل الممتع و مقالاته الأسبوعية في ركن المنتدى المنشور في الصفحة الأخيرة من الصحيفة..
و في هذا المجال تحدث الأستاذ محمد فال عن صدور مجموعتين من هذه المقالات صيغت كل منهما في شكل كتاب
و ذكر مجموعة ثالثة في طريق النشر تحت عنوان " الفستق المقشر " فاستعجل الحاضرون معه صدورها ضمن منشورات اتحاد الأدباء والكتاب الموريتانيين..
و هنا تدخلتُ فذكرتُ للحاضرين مسألتيْن أولاهما تتعلق بأصل فكرة كتابة هذه المقالات من حيث المبدأ و الثانية تتعلق بإنشاء الرابطة الموريتانية للآداب و الفنون.أما بخصوص فكرة كتابة هذه المقالات فكنت أول من اقترحها على مدير المؤسسة فقبلها و طالبني بإقناع الأستاذ محمد فال ففعلت..قال الأستاذ محمد فال مجاملا: و هل يسُوغ لي أن أعرض عن عروضك؟!.
و أما بخصوص الرابطة فقلت إن الأستاذ الخليل حدثني مرة و هو في المستشفى الوطني في منتصف السبعينات و قد أمضى فيه زمنا طويلا بعد أن دخله إثر حادث سير خطير على طريق الأمل و هو قادم من برينه. قال إن أكثر ما أنهك قواه إبان وقوع ذلك الحادث هو مطاردته لرزمة من الأوراق لعبتْ بها الريح يمينا و شمالا فحملتها إلى كل مكان بعد أن تناثرت محتويات الملف الذي كان يحفظها داخله.و بعد جهد جهيد استطاع الأستاذ الخليل أن يستعيد الملف المتعلق بإنشاء الرابطة الموريتانية للآداب و الفنون الذي لم تعد أوراقه بيضاء ناصعة كما عهدها من قبلُ ، و لكنها أصبحت حمراء ملطخة بدمه الزكي المنهمر من أماكن متعددة من جسمه المنهك أولُها وجهه الكريم بعد أن أُصيب بكسور بالغة في داخل المثلث الواقع بين العين و الأنف والأذن.
. و يبرر الأستاذ الخليل مخاطرته تلك بأنه بذل في إنجاز ذلك الملف المعقد من الجهد و الوقت قدرا لا يريد له أن يذهب أدراج الرياح خاصة أن تلك الأوراق المتناثرة في ذلك الظرف العسير لا يُدرك قيمها إلا هو و إذا لم يتداركْها قبل فوات الأوان فإنَّ مصيرها لا محالةَ إلى الضياع المحقق. و باكتمال القصة أومأتُ إلى صاحبها قائلا: أليس الأمر كما رويتُ يا أستاذ؟ فاعترض قائلا: بل ساعدني البعض في اللحاق بتلك الأوراق الشاردة !
و من موضوع الأدب و الأدباء تدرج حديث القوم بانسياب سلس نحو السياسة و الإدارة و ليس بين الفضاءيْن من حدود رادعة مانعة فولجوا عفويا إلى هذا الفضاء الرحب عبر الحديث عن الرئيس الأسبق المصطفى ولد محمد السالك رحمه الله الذي تطرق إليه الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف و كان مساعده في لبراكنه فبالغ في براعته في الإدارة.
و هنا تحدث أخونا أحمدو بن الشيخ الحضرامي فقال: لما وصل الرئيس المصطفى ولد محمد السالك إلى الحكم تم تشكيل الحكومة و عُيِّن الرائد جدو ولد السالك رحمه الله وزيرًا للداخلية و يبدو أنه تصفح سجل البريد السري " المشفّر" فصادف فيه برقيتيْن سابقتيْن تنذران السلطات العليا في الحكومة السابقة بوقوع انقلاب وشيك إحداهما من مدير الأمن الوطني يحيى ولد عبدي و الثانية من والي النعمه آنذاك انكام ليروان رحمهم الله.أما مدير الأمن فقد أبلغ أن ضباطا من الجيش الوطني يتزعمهم الرائد جدو ولد السالك يزمعون الإطاحة بالنظام في انقلاب وشيك.و أما والي الحوض الشرقي فقد أبلغ بأن الرائد جدو ولد السالك أخبره أثناء مقيل معه في دار الوالي في النعمه أن الجيش يزمع الإستيلاء على الحكم.و كان جدو يخضع لعلاج في فرنسا إثر إصابة في حرب الصحراء فمر في طريق العودة بأسرته في الحوض الشرقي فدعاه الوالي ليتناول معه طعام الغداء.
بعد الإطلاع على هاتيْن البرقيتيْن الإستعلاميتين بادر وزير الداخلية إلى إعفاء الرجلين من منصبيْهما و لكنه حرص على استقبال كل واحد منهما في مكتبه على حدة وفاتحهما في الموضوع مبينا خطورة مثل هذا التصرف على حياته. قال يحيى : إن ضميري المهني هو الذي فرض عليَّ أن أبلغ رؤسائي بما آلت إليه قناعتي الشخصية المبنية على جملة من الإستخبارات المؤكدة .و في نهاية اللقاء طالب الوزير بأن يعيده إلى قطاعه الأصلي في التهذيب الوطني لأنه معلم .و أما انكام ليروان فقد قال: السيد الوزير أولا: لقد حدثتموني بخبر الإنقلاب بحضور شخص ثالث، و لو كنا منفرديْن لكنتُ نصحتكمْ. ثانيا: أنتم الآن في منصب وزير الداخلية فهل ترضون أن يطلع أحد معاونيكم على خبر يضر بالأمن و يكتمه عنكم ؟
و في الأسبوع الموالي تم تعيين يحيى ولد عبدي واليا في وادي الذهب كما تم تعيين انكام ليروان واليا في كيدي ماغا و بذلك أعطى جدو ولد السالك رحمه الله أقوى دليل على أنه رجل دولة و صاحب شهامة.
قال الأستاذ الخليل: كان الأستاذ سيد أحمد بن الديْ وزيرا في آخر حكومة للأستاذ المختار بن داداه رحمه الله كما كان سفيرًا في تونس في الفترة التي كان فيها الرئيس المختار مُقيما هناك بعد الإطاحة به، و قد حدثني أنه لقيه مرة فقال له على وجه الدعابة : السيد الرئيس ، ما دمت قد أُبلغت بخبر الإنقلاب قبل وقوعه،فهلاَّ كنت أخبرتنا به نحن الآخرين فنتخذ منه الحيطة لننجو بأنفسنا مما أصابنا من عواقبه ؟! فأجاب الرئيس قائلا: اعتبارا من سنة 1966 ما مرَّ علي الشهرُ أو الشهران قط إلا و حمل إليَّ بريد الإستخبارات نبأَ انقلاب عسكري وشيك!و أردف قائلا باللهجة الحسانية: " اعكبْ كاع أفطن الحمد لله ما اخسر شِ و إلعادْ اخسرْ شِ ما اخسرْ شِ " !
و على ذكر الإستخبارات و الشهامة أورد القوم حكايات طريفة مروية من مصادرها الأصلية.
فبالنسبة للإستخبارات لم يُحظ موضوع وطني في عهد المختار بن داداه من السرية و التكتم بقدر ما حُظي به تأْميم شركة ميفرما إذ لم يتجاوز المسؤولون الذين عُهد إليهم بتسيير ذلك الملف الخطير عدد أصابع اليد الواحدة و من هؤلاء المسؤولين طبعا والي انواذيبُ آنذاك حسني ولد ديدي.و لكن الوالي فوجئ يوما بالحاكم المركزي للمقاطعة ابَّاه ولد ٱلبو رحمه الله يقول له:السيد الوالي لعلكم تفكرون في تأميم شركة ميفرما، ذلك ما أستشفه من بعض اتصالاتكم!
اندهش الوالي من كلام معاونه الأقرب و بادر فأبلغ وزير الداخلية أحمد بن محمد صالح و بسرعة توصل بأمر من رئيس الجمهورية يقضي بإلحاق الحاكم باللجنة السرية المكلفة بالموضوع و مباشرة بعد التأميم تم تعيينه مديرا عاما للأمن الوطني!
و كمصداق على سرية التأميم أخبرني الأستاذ محمذن بن بابَّاه حفظه الله أن الرئيس المختار بن داداه استدعى أعضاء حكومته في مسكنه في القصر الرئاسي في الساعة الثامنة من صباح اليوم الذي أعلن فيه تأميم ميفرما و فاجأهم بقوله: لقد قررتُ أن أعلن عن تأميم شركة ميفرما في الخطاب الذي سألقيه بعد قليل تحت قبة البرلمان، فإذا كان باستطاعتكم أن تحفظوا عني هذا السر العظيم في الفترة الوجيزة التي تفصلنا عن موعد هذا الخطاب فافعلوا جُزيتم خيرًا ! قال محمذن فدُهش القوم و وجموا كأنَّ على رؤوسهم الطير و بينما نحن كذلك إذ دخل علينا أحد العمال و أخذ يُناولنا الشراب فقلتُ له تلطيفا لذلك الجو العكر: إيتِنا منه يا هذا علَّنا نستسيغ به هذه الحجارة العالقة! فضحك الرئيس و الوزراء و انفرج الجو.
و في ذات السياق روى أحمدو بن الشيخ الحضرامي كذلك أن يربَ ول ٱعْلِ بيْبَ رحمه الله حدثه فقال: كنتُ ابَّان تأميم ميفرما واليا في ولاية آدرار و تتبع لها آنذاك مدينة الزويرات ، و بينما أنا في زيارة إلى وادان إذْ وصلتْني برقية تأمرني بالمجيء فورا إلى انواكشوط فأسرعتُ السير حتى وصلتُ العاصمة ليلا.و في اليوم الموالي سرتُ مغلِّسا إلى منزل وزير الداخلية صديقي أحمد ولد محمد صالح حفظه الله و هو من مواطني الولاية فتناولت معه الفطور والشاي و لم أستطعْ أن أنتزع منه أي كلمة تتعلق بموضوع الإستدعاء ، و يربَ كما هو معلوم من أقدم مفوضي الشرطة في البلاد!.
قال: و لما يئستُ من الظفر منه في المنزل بما يزيل حيرتي و هو صديقي الحميم و رئيسي المباشر الذي استدعاني أصلا، ودَّعتُه و توجهتُ إلى مباني الوزارة و بقيت أنتظره في مكتب الأمين العام حتى إذا وصل و رتب بعض الشؤون الصباحية المستعجلة ، أرسل إلي يطلبني فاستقبلني في مكتبه و من داخل المكتب أخبرني بالقرار الوشيك بتأميم شركة ميفرما و أمرني بالتوجه مباشرة إلى الزويرات حيث يجب أن أبقى إلى أن تكتمل مهمة التأميم. و أصدر إلي توجيهاته المتعلقة بذلك. !
و في مجال الشهامة كذلك حكى أحمدو مرة أخرى راويا عن الديْ ولد براهيم حفظه الله أنه خلال عمله واليا في ولاية الحوض الغربي فوجيء يوما ببرقية إدارية يأمره بموجبها وزير الداخلية بالمجيء فورا إلى انواكشوط .قال: وصلتُ بسرعة إلى العاصمة و أسرعتُ الخطوَ باكرًا إلى منزل صديقي الحميم وزير الداخلية أحمدْ ولد محمدْ صالح فتناولتُ معه الفطور كالعادة و امتنع من أن يحدثني كالعادة عن موضوع الإستدعاء. و غادرتُ منزله متوجها إلى الوزارة فاستفبلي في مكتبه طبقا لمراسيمه الإدارية المعهودة. و من داخل مكتب معالي الوزير تجاذبنا أطراف الحديث الذي تناول كل شيء إلا موضوع الإستدعاء. حتى إذا نضبت المواضيع قال لي بهدوء لستُ أنا الذي يستدعيك إنما يطلبك رئيس الجمهورية المختار ولد دادّاه و رفع سماعة الهاتف و قال للرئيس : لقد وصل الديْ و هو الآن معي في المكتب ثم أومأ إلي بأن أذهب إلى الرئاسة ففعلت..و هنالك استقبلني الرئيس المختار فإذا به يأخذ عليَّ ما وشى به إليه بعضُ المخبرين من خبر تساهل من قِبَلي في حراسة من وُضع هنالك تحت الإقامة الجبرية هو الأمير محمد فال ولد عميْر!
قلت للسيد الرئيس : كنتُ أظن أنكم بتحويلي إلى ولاية الحوض الغربي حيث يُقيم محمد فال بن عمير إقامة جبرية تهدفون إلى التخفيف عنه لا التعنيف عليه ..و لا أخالكم تخافون عليه من أن يهرب إذْ يمنعه من ذلك عاملان اثنان أولهما شهامتُه و الثاني عهده إذْ أنه لن يعمد إلى فعل يُخل بمسؤوليتي الرسمية في حقه.قال: و استرسلتُ في الحديث معه على هذا المنوال حتى إذا ما بلغتُ فيه مبلغًا بدا مقتنعا بلْ شاكرا و ممتنًّا لي بما أوضحتُ له مما كان غائبا عنه من ملابسات الموضوع. قال: و هكذا غادرتُ مكتب السيد الرئيس بعد أن تحقق لي ما كنت أرتجي من قناعته بسلامة منهجي.
و معلوم أن من التسهيلات التي أحيط بها محمد فال ولد عمير منذ مجيء الديْ إلى لعيون أن رفعت عنه الحراسة فصارت زياراته مفتوحةً للخاصة و العامة من الناس على حد سواء و في أي وقت ثم صارَ له معه مجلس أميريٍّ طيب تُدارُ فيه كاسات الشاي بعد العصر من كل يوم.
و من أمثلة الشهامة كذلك ما نقله أحمدو مرة أخرى عن بكار بن أحمدو حفظه الله أنه قال: كنتُ سفيرا لموريتانيا في دكار إبّان وفاة الأمير محمد فال ولد عمير رحمه الله و كان قد أسرَّ إليَّ و هو في المستشفى برغبته في أن يُدفن في مقبرة " تندكسمِّ " إلى جوار لمرابط محمد سالم بن ألُمَّا إذا أراد الله وفاته في مرضه ذلك في دكار. و لمّا توفي هنالك أبرقتُ إلى الوزارة أطلب السماح لي بتنفيذ تلك الوصية فلم يؤذن لي في ذلك بحجة أن دكار أصبح مدفنا للبيظان مذ صار به الشيخ التراد بن العباس رحمه الله..
فما كان مني إلا أن استأجرتُ على نفقتي الشخصية طائرة كلْوَدَكْ المشهورة في رحلة تحت جنح الظلام مستعجلة ذهابا و إيابا إلي انواكشوط..و من هنالك ذهبت مباشرة إلى منزل وزير الداخلية آنذاك أحمدْ بن محمدْ صالح حيث علمت بوجود الرئيس و عقيلته فصادفت الجماعة يستعدون للصعود مع السلم نحو الطابق العلوي من المنزل كأنما يودون الإنزواء به لأمر خاص .و بعد سلام خاطفٍ انفردت مع السيد الرئيس و شرحتُ له موضوع الوصية و طلبتُ منه الإذن في تنفيذها..فأومأ إلى أحمدْ بن محمد صالح أن يلتحق بنا و قال له: أسمعتَ ما يطلبه منا سعادة السفير؟ ألا يطرح عليك مشاكل أمنية؟ قال وزير الداخلية : لا..لا يطرح أي مشكلة أمنية!عندئذ أذن لي الرئيس في نقل جثمان الأمير من دكار إلى موريتانيا فشكرته و ودعته فواصل مسيره صاعدًا مع السلم .أما أنا فقد بقيت مع أحمد بن محمد صالح برهة فقال لي: إن شئتَ تناولتَ معنا طعام العشاء فهو طبق خاص أعده الليلة على شرف هؤلاء الضيوف " الخِلْطَ " من تلك اللحوم المستجلبة من البادية التي تعلم يعني " الْحمْ لحبارْ"!.
فاعتذرتُ للوزير و انطلقتُ مسرعا في طريق العودة إلى المطار حيث تقبع الطائرة ..و في الطريق عرجتُ بصورة خاطفة على بعض الأصدقاء في الحي السكني الإداري في ابلوكات..و هنالك لقيت صديقي يعقوب بن أبي مدين رحمه الله ففهمتُ من حاله و مقاله أنه يرغب في الذهاب إلى دكار و يبتغي إليه وسيلةً سريعة للنقل فعرضتُ عليه مرافقتي فقبل مسرورا.
و هكذا غادرنا انواكشوط ليلا و عدنا إلى دكار سالمين غانمين بمطلوبنا و مباشرة بعد اكتمال الرحلة الجوية بدأنا ترتيبات السفر البري حيث جهزنا سيارة رباعية الدفع فوضعنا الجنازة في ركنها الخلفي و ركب يعقوب في مقدمتها وودعناه و انطلق الموكب على بركة الله.
هذا بعض ما علق بذاكرتي من أهم تلك الحكايات الغنية الماتعة الممتدة على ثلاث ساعات متتالية. و كان أقلنا حظا في الرواية من كنا نود أن يكون أوفرنا حظا فيها..ذلك أن مُضيفنا آثر ضيوفه في كل شيء إلا السيادة فاستأثر بها لنفسه كاملة غير منقوصة، إذ لم يلبث يخدمهم هو نفسه بيده من بداية المشوار إلى نهايته عند منتصف الليل فكان سيدَ القوم حقا إذ هو خادمهم بكل تواضع و إخلاص.
و كما شغل نفسه بخدمته إيانا أراد كذلك أن يشغلنا بمائدته الفاخرة الغنية المتشعبة ذات الألوان المختلفة و قد تبوّأ منها الكسكس و العيش مكانة الصدارة و ما أظنهما فيها يتكافآن لو أنهما أعادا الكرة فانعقدتْ بينهما المناظرة من جديد إذ قد ألبس العيش ليلتئذ حُلة بيضاء ناصعة ما عهدناها لديه من قبل فارتختْ عضلاته و تغيرت سماته و حُطَّ من قَدره لا قِدْره و نيل من جسمه الرخو بالملعقة الحديدية البليدة بدل اليد الناعمة الذكية المعودة على التعامل معه بما يناسب الزمان و المكان.
ولكن بالرغم من بروزه في حلته المتواضعة تلك،فقد استقطب من اهتمام الحاضرين ما لم يستقطبه غيره من الوجبات المنافسة رغم حضورها اللافت للأنظار و ذلك بحضور شهود عدول من أهلها منهم الأستاذ محمد فال بن عبد اللطيف و زعيم الفريق المنافس الوزير عبد القادر بن محمد الذي لم يرَ بدَّا من أن يُصيبَ منه مُدَّا.. و الله ولي التوفيق ..
Commentaires
Enregistrer un commentaire